مخاتلة قناص.. قصة من وحي حرب 2015

وكالة أنباء حضرموت

في ذكرى يوم النصر المجيد، لا ننسى أبطال المقاومة الذين كانوا بعد الله هم أصحاب الفضل، الذين سقوا من دمائهم نبتة الحرية.  
ولعل حدثا كبيرا كحرب 2015 ما كان ينبغي له أن يمر مرور الكرام في حياة الأدباء،  ولا سيما كتاب القصة، ففيها ينابيع ثرة لكل مستلهم كتابة، ولعل أروعها صمود شباب المقاومة . 
ومن وحي ذلك الصمود، كتبت هذه القصة التي أعيد نشرها.


"أحرق قلوبنا هذا القناص عليه لعنة الله. في كل يوم له نصيب من لحومنا: إما قتيل وإما جريح. يجب أن نقتله بأي  ثمن وبأي وسيلة وإلا نكب من تبقى منا. يا رب  ! كيف العمل ؟! حاولنا مرارا ضرب الغرفة التي يأتينا منها الرمي, ولا فائدة, إنه مثل الجني لا نستطيع أن نراه, وكأنه وقبيله يرونا من حيث لا نراهم. رمينا الغرفة بالآر بي جي؛ فصنعت في جدارها ثقبا لكن الرجل لم يُقتل, بل مستمر في قتلنا. آه من قناصي الحرس الملاعين ! إنهم مهرة ويجيدون التخفي, وينكبون شبابنا نكبات عظيمة ! لكن لا ! لا نجونا إن نجوت ! سنصل إليك بأي وسيلة وبأي ثمن !"

كان ذلك ما يجول في ذهن محمد البكري ضحى أحد أيام شهر يونيو, وهو يناوب مع شباب المقاومة في بعض العمائر في جعولة شمال مدينة عدن في بيوت بلوك يقال له صفر يواجه قرية الفلاحين. كانت هناك عدد من العمائر الجديدة في الجهة اليمنى من القرية, وكانت إحداها في الركن الشرقي من القرية, وكانت تواجه القطاع الذي ترابط فيه مجموعة هلال الحسني المقاوِمة. وكان في هذه العمارة قناص بارع. كان هذا القناص يمنع المقاومين من الحركة أو الظهور في النهار, وما كان لأحدهم أن يتحرك نهاراً بين البيوت إلا على وثبات خاطفة وقصيرة؛ لئلا يتمكن من التسديد عليهم. كانت الأفكار تؤزه  ليجد خلاصا من محنتهم مع هذا القناص. صاح في رفاقه المرابطين معه في العمارة :

- علينا أن نقتل هذا القناص بأي ثمن, لكن كيف العمل ؟! فكروا يا شباب بأي طريقة تمكنا من رأس هذا الملعون !

قال له محمود:

- أنت ترى الوضع أمامك, كم راقبنا الطاقة ولم نستطع أن نراه, لم يظهر يوما واحدا حتى ظهورا خاطفاً.

قال محمد البكري بنغمة ممطوطة ومشوقة :

- طيب أيش رأيكم يا شباب إن نقتحم عليه العمارة ؟ !

لكن هلال الحسني فز كمن وخزته إبرة لسمعه تلك الكلمات ورد غاضباً :

- أنت عاقل أم مجنون ؟!

- لا والله عاقل !

- أي عاقل وأنت تريد أن تودّر عيال الناس ! هل تريد أن تقضي عليهم ؟!

- اسمعني يا هلال أنت والجماعة الله يحفظكم.

-  هاه, قل !

- نحن هنا لماذا جئنا ؟ نلاعب المجوس كرة أم ندافع عن ديننا وأرضنا وعرضنا ؟

أجابه أكثر من واحد بلغط جماعي :

جئنا ندافع عن الدين والأرض والعرض.

- طيب ! نحن هنا جئنا لواحدة من اثنتين: إما النصر وإما الشهادة, وأنتم ترون هذا القناص كل يوم يضرب فينا, ونحن بين قتيل وجريح. القناصة قيدونا عن العمل وإذا استمرينا على هذا الحال فلن ننتصر بعد عشر سنين.

قال أحدهم مؤكدا كلامه :

- أي والله سنصير مثل سوريا.

- فقال محمد البكري:

- وحتى لا نصير مثل سوريا علينا أن نبذل ونضحي ونتشجع.

وقال محمود مؤيدا:

- هذا القناص إذا بقينا هنا سيقتلنا كلنا واحدا وراء واحد. اليوم مثلما علمتم صوب صبري باحاج في عينه. كانت هناك أربعة ثقوب في الجدار. وعندما نظر صبري من الثقب الأيمن بادره بطلقة في العين.

 

- أما أنا فقد حدد القناص الفتحة التي كنت أرمي منها, وعندما أخرجت ماسورة البندقية رمى علي وكان يريد أن يصيب عيني, أصاب أنبوب الغاز في البندقية وسلمني الله من القتل, وبسرعة انسحبت وغيرت موقعي, ولو لم أفعل فقد كانت نهايتي محققة.

نظر إليهم هلال وهز رأسه وهو يقول:

- يا شباب حاولوا أن تفهموني, المسؤولية ليست سهلة, وأولاد الناس ليسوا لعبة في يدي, بل أرواح, ولهم أهل وزوجات وأطفال. الاقتحام يا شباب ليس لمن هب ودب ! الاقتحام له أناس مدربون خصيصا, وأنتم هنا كلكم مدنيون, لا أحد فيكم عسكري, ولو كنتم عسكريين فلا يكفي. الأمر يتطلب قوة خاصة مدربة على التسلل والاقتحام. أنتم تريدون أن تدخلوا إلى وكر الضباع بأرجلكم, وتظنون أن الأمر سهل. لو كان عندي أمل أن أرسل خمسة منكم فينفذون المهمة ويرجع منهم ثلاثة أو اثنان لأرسلتكم لنتخلص من هذا القناص الذي قتل علينا الكثير وقد يقتل أكثر.

قال له  محمد البكري بنغمة تطفح بالتعجيز والالزام بخياره :

- طيب أيش العمل ؟ نبقى متفرجين ؟

فرد عليه هلال بهدوء قائلا :

- ليس لنا الّا الصبر والاستعانة بالله. لو كان عندنا ب-10 أو هاون 120 كنا نستطيع أن نقضي عليه بسهولة, لكن كما ترون ليس معنا الًا البنادق وقليلا من قذائف الآر بي جي, وعيال الذين لديهم الهاونات. اصرفوا نظراً عن الموضوع, والله يجيء بما فيه الخير.

كان هلال يفكر ليس في المسؤولية عن أرواح الجنود فحسب, بل في العدو إذا تمكن من المغيرين. سترتفع معنوياتهم, وقد يعود هذا بنكسة للمقاومة وتقدم للحوافش على الأرض. لذك لم يرغب في مغامرة نسبة فشلها أكبر من نجاحها.

عاد هلال بعد ذلك الى المنصورة, وبقيت مجموعته مرابطة في جعولة. بقوا موتورين. ولم يقنعوا بما قاله لهم؛ لذلك بعد أن ذهب هلال ابترز محمد البكري بمحمود, وقال له:

- كيف ترى في ما قاله قائد المجموعة ؟

- كلامه صحيح بأننا غير مدربين, لكن من غير المعقول أن نبقى للقناص حتى يجهز على بقيتنا.

- أنا أعرف أنك رجل جيد, لكن الآخرين ليست لديهم أي خبرات كافية, ولا نريد أن نخسر أحدا منهم. إذا كنت مقتنعا بالاقتحام فسأذهب أنا وأنت إلى مجموعة اللحوج وسنستعين بعدد منهم. إن لديهم خبرات في الاقتحامات.

كان محمود شابا في الثامنة والعشرين تقريبا, طويلا, مفتول العضلات, رابط الجأش عند المواجهات, وذا فطنة ونباهة, وسريع التعلم في أمور القتال. كانت هذه الخصال ما شد محمد البكري فيه وجعله يختاره من بين الآخرين. وكان محمد البكري الرجل الثاني في قيادة المجموعة بعد هلال. لقد كان ما اتفقا عليه كَسْرا ً لأمر قائد مجموعتهم. لذلك قال محمود:

- لكن كيف نصنع مع هلال؟

- سنخفي عليه الأمر تماما, أما المجموعة فلن نخبرهم إلا قبل الخروج مباشرة حتى لا يصل الخبر لهلال, وإن وصل فبعد التنفيذ. المهم خذ في حسابك هذه عملية انغماسية سننغمس في العدو, وقد لا نرجع. وطن نفسك على الشهادة !

- الله كريم ! إما أن نتمكن من القناص وإما الشهادة.

- لكن أهم شيء أن نقتل القناص وبعد ذلك إذا استشهدنا فلا مشكلة, علينا أن نقتص لكل من قتلهم وجرحهم !

- هيا بنا إلى اللحوج !

وذهب الرجلان إلى محسن فرحان قائد مجموعة اللحوج. بعد أن حيا بهم وجلسوا, سألهم عن الأخبار, فقال له محمد البكري :

- ماذا أقول لك ؟ لدينا قناص في العمارة المقابلة لنا, قتل منا كثيراً, وجرح كثيراً, ومنعنا من الحركة في النهار. ونحن نفكر بأن نلتف على العمارة ونتسلل إليه ونقتله.

- إن كان لكم حاجة أقدر أن أساعدكم فيها فأبشروا !

- أنت تعرف مجموعتنا, أغلبهم صغار في السن, وليس لديهم أي خبرات في مثل هذا العمل, وهلال رفض تماما أي تحرك لنا, لكن أنا ومحمود عازمون على قتل القناص حتى لو قُتلنا. جئناكم اليوم نلتمس منكم العون ببعض الرجال. ما شاء الله ! جماعتكم لها خبرة في التسلل والاقتحامات.

- لا تهتموا لهذا الأمر, أنتم اثنان وأنا سأعطيكم ثلاثة من مجموعتنا. أظن أن خمسة يكفون لهذه العملية, أم لا يا بكري ؟

- بالضبط خمسة يكفون, وإذا كثرنا فقد ننكشف, بخمسة نستطيع أن نتسلل بخفة ومهارة.

أشار محسن فرحان إلى ثلاثة فتيان معه قائلا:

- سأعطيك هؤلاء.

كانوا ثلاثة فتيان في بداية العشرينات من أعمارهم, وذوي قامات طويلة رياضية نافرة العضلات. كانوا يعلمون أن مثل هؤلاء هم من يصلحون لعمليات التسلل؛ فأجسامهم القوية تعطيهم ميزة خلف خطوط العدو وتمكنهم من حسم أي عراك مع العدو بالأيدي المجردة أو بالسلاح الأبيض سريعا. كانت قاماتهم الرياضية الطويلة تدخل الرعب في نفوس الحوافش عندما يباغتون بهم, وتمكنهم من التغلب بسهولة على الحوافش الضئال القامات غالبا, وكأنهم يتعاملون مع طفل صغير.

سألهم محسن فرحان :

- طيب متى تنوون الانغماس ؟

فرد محمد البكري :

- اليوم العصر. نريد أن نخارج القناص قبل المغرب. لا نعلم روح من سيطفئها إن بقي إلى الغد. الآن الساعة الثانية. الرابعة أحسن وقت للتسلل, فهم في هذه الساعة مكيفون بالقات الممتاز.

كان المقاومون في جبهة جعوله قد طالت بهم المناوبات وتعدت الشهرين, وكانت مواقعهم متقاربة مع مواقع الحوافش المواجهة لهم في الأماكن المبنية, وكانت أحيانا لا تبعد أكثر من 150 متراً عن مواقع الأعداء. كانوا يسمعون بعضهم عندما يصيحون. كانت معظم مجاميع المقاومة في جعولة تأتي من المنصورة. لم تكن هذه المجاميع ترابط طويلا بل اتخذوا نظام المناوبات بديلا. كانت المناوبات توفر لهم فترة راحة وتخفف من أعباء التموين. كان طول أمد المناوبة قد أكسب أفراد هذه المجموعات معرفة جيدة بالمنطقة وبمواقع تمركز الحوافش. كانوا يعرفون حجم قوتهم الصغير ومواقع تمركزهم ومداخلهم ومخارجهم وأوقات راحتهم ومواعيد وجباتهم. كان لهذه المعرفة قيمة كبيرة في تسهيل التسلل. هذا القرب منهم جعلهم يحفظون نمط الحياة اليومي لعدوهم, ويعلمون أوقات نشاطه وسكونه. كانوا يعلمون أن الأعداء بعد أن يخزنوا بساعة أو ساعتين يميلون إلى الاسترخاء, و يبلغون ذروة التكييفة عند الساعة الرابعة, وقلما ينشطون للقتال في هذا الوقت, و يلفظ أكثرهم القات عند الخامسة, وكان العشاء يصل إليهم في الخامسة أو السادسة. وضع البكري في حسابه أنه إذا لمحهم أحدٌ من الأعداء فسيظن أنهم منهم؛ فقد صار الحوافش يقلدون مجاميع المقاومة, فلا يلتزمون بزي موحد, ويلبسون ثيابا رياضية, أو سراويل عسكرية وقمصانا مدنية, وبعضهم يلبسون مثل القاعدة عمائم سوداء وسراويل أفغانية.

سأل محمد فرحان:

- هل حددتم في أي دور هو ؟ وهل هناك أحد غيره في العمارة يرمون ؟ وماذا عن العمارات المجاورة ؟

- رد عليه البكري :

- هو في الدور الثالث, وليس هناك من يرمينا من تلك العمارة غيره. وأربع من العمارات المجاورة لعمارته على اليسار لا تأتي منها أي نيران. هو يقوم بتغطية قطاع رمي يشمل عددا من عمائرنا المواجهة لهذه العمارات كلها.

- ومن أي طريق ستتسللون ؟

- سنتسلل من الجهة اليمنى للعمارة عبر العمائر المجاورة. صنعنا فجوات في جدران العمائر, واعطتنا ممرا أمنا من أنظار العدو يمكننا أن نتسلل عبره إلى المدرسة, ثم سنقفز من سورها الشمالي إلى جهة العمائر التي في قطاع الحوافش بعد التأكد من خلو الطريق. تلك العمائر بحسب ملاحظتنا لا أحد يتمركز فيها, وبعدها نمشي ما بين صفين من العمائر حتى نصل لعمارة القناص من الخلف.

- كيف ستقتلونه ؟

- سنتسلل إليه وسنباغته, إن استسلم قيدناه واعطيناه طعنة بالسكين في الرقبة, وإن لم يستسلم سنباشره بالرصاص.

- طيب, نريدكم أن تتنبهوا لهذه الأمور, يجب أن لا يطول وقت العملية على نصف ساعة من انطلاقكم إلى حين عودتكم. ولا تنسوا أن الحرس الجمهوري غالباً ما يضعون على أي عمارة فيها قناص حارساً أو حارسين على الباب؛ ليمنعوا أي تسلل, فكونوا منتبهين لذلك !

- لا تهتم بهذا الشأن. قال فتى لحجي اسمه فضل ممن اختارهم فرحان للذهاب مع البكري, وأردف: أنا سأتعامل مع الحارس, ومحمد البكري يغطيني من الخلف أو في حال ظهور واحد من الأمام.

- ممتاز يا فضل, وبعدها - يا بكري - ادخلوا العمارة بسرعة البرق, وأبقوا واحداً في منتصف الدرج عند انعطافها؛ ليحرسكم من أي متدخل, وواحداً في الدور الثالث بعد دخولكم, يحرس مدخل الشقة, فقد يكون هناك أحد مختبئ في الشقة المقابلة, وبعد أن تدخلوا إلى بوابة العمارة يجب أن لا يطول الوقت عن عشر دقائق, تصفون فيها القناص, وتنسحبون من العمارة جريا حتى تصلون, وإلا سيكتشفونكم إن وبلغت الساعة الخامسة, وجاء عشاءهم مبكرا. ليس لكم إن اكتشفوكم إلا الشهادة. إياكم أن تستسلموا سيقطعونكم إربا. إن كشفوكم سنعرف من الرمي. سنشاغلهم من جهتنا, وقولوا لمجموعتكم أن تشاغلهم, فقد يُقدَّر لكم النجاة.

- أسأل الله أن تكون العواقب سليمة.

رجع البكري ومحمود إلى قطاعهم الذي يناوبون فيه مصطحبين معهما ثلاثة من اللحوج. كانت الساعة الثالثة حين وصلوا إلى مجموعتهم. رأوا اللحوج فعلموا أن البكري قد نوى عملاً؛ فاللحوج في ذلك القطاع لا يأتون إلا لتنفيذ أعمال هجومية غالبا, أو لصد هجمات الحوافش حين تشتد.

طلب البكري أن يجتمع الأفراد, فاجتمعوا في إحدى العمائر الآمنة, فقال لهم:

- يا شباب لا وقت لدينا الآن للكلام الكثير. تكلمنا مع هلال عن قتل القناص, فرفض لأننا لسنا متدربين. لكن من غير المعقول أن يبقى القناص يقتل فينا هكذا. المهم تكلمت مع فرحان, وأعطاني ثلاثة من رجاله المتمرسين بالتسلل والاقتحام, وأنا ومحمود سنذهب معهم. يجب أن نقتل هذا القناص بأي ثمن حتى لو كان فيها شهادتنا. لا ترموا على القناص أو غيره حتى نرجع. الآن هم مكيفون بالتخزينة وفي نشوة واسترخاء. أي رمي سيستفزهم ويجعلهم في حالة يقظة واستنفار, وهذا ما لا يناسبنا؛ لأننا نريد أن نتسلل للقناص ومن معه وهم في حال استرخاء؛ لنباغتهم ونقضي عليهم دون أن يشعر أحد في باقي العمائر القريبة منهم؛ فلا يأتيهم مدد. لكن إن انكشفنا, ووجدتم أننا وإياهم في معركة حامية الوطيس حاولوا أن تشاغلوهم في قطاعكم بالرمي؛ لينخدعوا بأصوات الرصاص, فيظنوا أن الهجوم آت عليهم من جهتكم, فلا يلتفتوا للآخرين. لكن لا تستعجلوا بالرمي عند سماعكم لأول طلقة أو طلقتين فقد نضطر لتصفية أحد الحراس. عند نشوب معركة حامية الوطيس اشعلوها من عندكم. مفهوم يا رجال !

فأجابه الشباب بصوت موحد قوي:

- مفهوم !

وهن صوت محمد  البكري فجأة وقال لهم بصوت بالغ التأثر :

- بقي شيء أخير يا شباب,  ما ندري أنرجع أم لا؛ فسامحونا وأنتم مسامحون !

 

تأثر الشباب  كثيرا بما قال البكري, وغصت حلوقهم, وأخذت العبرة  بعضهم. لكنهم أجابوا بأصوات متفرقة متهدجة أو خافتة.

- مسامحون دنيا وآخرة.

- المهم الله الله إذا استشهدنا ! لا يرون منكم لينا ولا اهتزازا, ذوقوهم الصَبِر.

- لا تقلق. قال أحد الفتيان.

-  نستودعكم الله. الساعة الأن الرابعة إلا عشرين. سنصلي وسننطلق.

انطلقت مجموعة الإغارة بعد أن أتموا صلاة العصر متسللين عبر العمائر حتى وصلوا إلى سور المدرسة الجنوبي, وتسللوا من إحدى الحفر التي كانوا قد صنعوها في السابق. حين بلغوا سور المدرسة الشمالي مسحوا بأعينهم العمائر المجاورة, وتأكدوا أن لا أحد يرصدهم, فرفعوا أحدهم بأيديهم ليرى ما خلف السور وبعد أن أشار لهم بأن لا أحد أمامه, رفعوه لأعلى السور فوثب إلى الجهة الأخرى, وتبعه الباقون. ومشوا بموازاة السور إلى الغرب؛ ليصلوا إلى صف العمائر الأول وراء عمارة القناص. كانوا يسيرون ببطء وبينهم مسافات تصل إلى سبعة أمتار؛ لئلا يسهل حصدهم ببندقية أو بقنبلة إن كُشفوا مجتمعين, وكانت عيونهم لا تكف عن مسح كل المباني. عند وصولهم لطرف السور, كان محمد البكري في المقدمة. وقف فوقفوا. جثى على ركبتيه وتقدم بطرف رأسه من خلف السور ليتأكد من خلو الشارع المقابل لهم, ثم وثب مسرعاً وتبعوه حتى وصلوا إلى الصف الأول من العمائر التي كانت تفصل بينهم وبين عمارة القناص. بينما هم يتهيؤون للعبور من جانب عمارة في نهاية الصف الأول وقطع الشارع ليصلوا إلى الصف الثاني, إذا بهم يسمعون طلقات نارية عديدة. ظنوا لوهلة أن أمرهم كُشف وأنه قضي عليهم, لكن سرعان ما أفرخ روعهم حين علموا أن الرمي ليس عليهم. كان الصوت يأتي من بين صفي العمائر. تقدم محمد البكري وفضل إلى طرف العمارة وراح محمد يختلس النظر, ورأى اثنين خلف مترس يرميان على إحدى العمائر التي تواجههم في قطاع المقاومة. رجع برأسه سريعا. لم يكن لديه أي وقت ليضيعه, وعليه أن يتخذ قراره بسرعة ودون أي ترو, وما كان ليتكلم مع رفاقه؛ لأن العدو سيسمعهم, فأشار لهم بيده أن هناك اثنين من الأعداء, وأشار إلى نفسه وإلى فضل اللحجي ففهم البقية بأنه سيصفي الرماة من الخلف هو وفضل, فهزوا رؤوسهم بالموافقة, ثم أشار إلى عينيه فالعمائر, ففهموا أنه يطلب منهم حمايته ممن قد يخرج منها.

كانت ثوان مكتظة بقلق يوغل يده في أحشائهم فيعتصرها, حين تقدم محمد وفضل اللحجي ليقتلا الراميين, كانت قلوبهم قد بلغت الحلوق من الرجفان. إن طامة توشك أن تحل بهم بعد أن كانت مهمتهم تسير في طريق النجاح. إنهم الآن في وجار الضباع, وإن شعرت بهم فستتناوشهم ولن ينالوا من القناص. يا للخسران !

ما كان بالمستطاع القضاء على الراميين طعنا بالسكاكين؛ لقد كانت بينهم فسحة تصل إلى خمسين مترا, ويعسر على المتسللين أن يصلوا إليهم دون أن ينكشفوا. وكانا راميين اثنين, لا واحداً, وكانا في يقظة وأصابعهما على الزناد؛ لذلك لم يكن للبكري ورفيقه من وسيلة إلا أن يباشراهما بالرصاص قبل أن يتنبها لظهورهما, ويجب أن يصيباهما من الطلقة الأولى لكيلا يتنبه من في الجوار ويتحول الأمر إلى معركة.

خرج المغيران في لمح البصر من خلف الجدار, وأطلق كل واحد منهما ثلاث طلقات على أحد الرماة؛ فأصاباهما, وقتلاهما على الفور, وتراجعا إلى خلف الجدار. بقيا لبرهة, ولما لم يسمعوا أي لغط في الخارج, علموا أن الحوافش لم يتنبهوا, ولعلهم  ظنوها نيراناً صديقة تُكال على مواقع "الـڈواعش".  

 تقدم محمد وفضل إلى المترس الذي كان الراميان فيه واقتربوا منهما, فرأوا بركة الدماء تحتهما وتأكد لهما أنهما قد ماتا. حينها انطلقت المجموعة نحو عمارة القناص. لم يكن يفصلهم عنها إلا الصف الثاني من العمارات. انسلوا من ممر صغير بين عمارتين في ذلك الصف, وتقدموا وقبل أن يخرجوا من هذا الممر ليصلوا إلى عمارة القناص تناهى إلى سمعهم أصوات زوامل تصدح من جوال فتوقفوا, وتقدم محمد البكري كالعادة ليختلس النظر إليهم من أدنى زاوية المبنى. وعاد وأشار إليهم أن يقتربوا, وقال لهم :

- هناك حارس في بوابة العمارة, هو في الداخل ولا يظهر منه شيء, إذا مشينا بجانب الجدارن والتففنا إلى جدار العمارة التي هو فيها, فلن يرانا ولن يشعر بنا إلا ونحن فوقه. فضل تقدم وأنا بعدك. البقية اتبعونا.

قطعوا الممر ثم سارو بمحاذاة العمائر حتى وصلوا إلى الزاوية وانعطفوا. إنهم الان يسيرون بموازاة جدار عمارة القناص, ويخشون أن يشعر بهم الحارس؛ فتذهب المباغتة ويُحصرون بين الضباع التي ستتناوشهم. كانوا يسيرون ورؤوسهم تدور كالرادار تمسح مجال البصر خشية أن يطلع عليهم أحد الحوافش, فيبادرهم بالرمي. كان عليهم كشفه قبل أن يكشفهم, ورميه قبل أن يفوق من المباغتة, فالأفضلية لمن سيرمي أولا. وضع فضل اللحجي البندقية على ظهره حين اقتربوا من الباب, وسل سكينا من جعبة الذخيرة كان يذخره في جعبته لهذه الحالات. كان فضل كبعض مقاتلي المقاومة قد حملوا السكاكين متأثرين بمشاهدتهم لأعضاء تنظيم القاعدة, وقد خبروا مع الأيام فوائدها الكثيرة. اقترب فضل اللحجي من الباب وفي إثره محمد البكري, وكان صوت الجوال الصيني يصدح بنشيد "حيا بداعي الموت". وعندما صار بجانب الباب رأى أقدام الجندي, فأيقن أنه جالس مسترخ مستمتع بتخزين القات, فوثب عليه في لمح البصر إلى داخل العمارة فرى شهقة الموت في عيني الجندي, ووثب البكري بعد فضل وتبعه الباقون سريعا. وجدوا الحارس جالساً على كرتون ومتكئا على طوبة عليها بطانية وبجانبه جواله يصدح بزامل " حيا بداعي الموت قل للمشرقي والمغربي" وأغصان القات الفاخر وعلب الماء. لم يترك فضل الفتى الجبار الذي حنكته التجارب للحارس أدنى فرصة, بل هوى عليه واضعاً ركبتيه على فخذي الحارس ليثبت أطرافه السفلى, وبراحة يده اليسرى وأصابعه القوية كملزمة سد فم الحارس وأنفه, فلم يترك له أدنى نفس ليخرج, وبيمناه طعنه في صدره فانغرس السكين بسهولة في صدر الحارس الرقيق البنية, وطعنه  ثانية وثالثة, كان الدم يشخب,  وسال من تحته صانعا بركة دموية على الكرتون. وبقي فضل ساداً فمه حتى سكنت جثته. لحسن حظهم أن الحارس كان يضع جعبة الذخيرة على شقه لا على صدره.

لم يقتل فضل الحارس بدم بارد كما يقال, بل كان الدم يغلي في عينيه بحقد اشعلته في نفسه جرائم الحوافش. ولا عجب في ذلك, فقد رأى مقتل عدد من أهله وجيرانه على أيدي القناصة الحوافش, أو بقذائف حقدهم الطائفي, وكان وجماعته ممن شردهم الحوافش من لحج, وفجروا بيته وبيوتا لأقاربه وأصحابه, ولم يبق له من مسكن هو وجماعته من اللحوج إلا الجبهة يرابطون فيها, ويشغلون أنفسهم بصيد الضباع الحوثية والعفاشية التي جعلت حياة الناس في الجنوب جحيما.  قام فضل من فوق الحارس, وجذب سكينه ومسحه بثيابه, ثم بسرعة سحبوا الجثة ليخفوها عن نظر أي عابر إن نظر صدفة إلى باب العمارة. بقي الهاتف الجوال الصيني يصدح على الارض مكملا النشيد "يا هذه الدنيا طُلِقت بالثلاث مودعة". وضحك فضل لسماع هذه الكلمات وقال في نفسه: " الله في حياتي كلها ما أحببت الأناشيد الحوثية مثل اليوم".

نظر البكري إلى الساعة وقال لهم بصوت خافت:   

-  الساعة الآن الرابعة وعشرين دقيقة. معنا عشر دقائق لنتم عملنا فوق ثم ننسحب. هيا.

حين صعدوا أشار البكري إلى أحد الفتيان اللحوج أن يبقى في منتصف الدرج الصاعد إلى الدور الثاني ليأمنهم من أي قادم.

كانوا يصعدون الدرج على أطراف أصابعهم حذر أن يشعر بهم القناص فيتغدى بهم قبل أن يتعشوا به. عندما وصلوا إلى الدور الثاني وشرعوا بصعود درج الدور الثالث أشار البكري على فتى ثان من اللحوج أن يبقى في منعطف الدرج في المنتصف بين الدورين الثاني والثالث, وأشار إليه أن يؤمنهم إن خرج أي عدو من أي شقة. لم يكن هناك في العمارة من رماة غير القناص فيما يعلمون, لكنهم احتاطوا للأمر.

وصلوا الدور الثالث. كانت هناك شقتان إحداهما على اليسار وكان بابها مغلق, والثانية على اليمن وكان بابها مواربا ومن داخل الشقة تناهى إلى سمعهم صوت هاتف جوال يصدح بأغنية فؤاد الكبسي "صنعا بكت والحي والحيمتين حزينة ... يالي للي يلي أله" . عرفوا أن القناص يقبع في هذه الشقة. قال البكري في نفسه: "ابن الكلب ذوِّيق ومكيف ولا يدري أين الموت ! ". تهيأ محمود ليركل الباب بقوة, فأشار البكري عليه أن يتوقف, وعلى الفور انحنى فضل اللحجي الفتى المحنك لينظر تحت الباب, وأشار إلى البكري فنزل لينظر فرأى علبة فول. أدرك البكري أن الرجل قد وضعها للتنبيه. وقال في نفسه: "آه من المجوس الملاعين يتفننون في وضع نظام إنذار مبكر من مواد بدائية لتلافي المباغتة. الملاعين ! يتوقعون قدومنا إليهم فوضعوا حراساً وعُلباً. أي مغامرة منا بدفع الباب ستنبيه القناص البارع ولن يبقي علينا أو يذر, لكن الوقت كالسيف ويوشك أن يقطعنا إن لم نتصرف".

. لم يلبث فضل اللحجي مليا حتى أشار إلى البكري بالتمهل, ونظر من حوله فرأى عودا مليئا بالطلاء - لعله مما استخدمه الدهانون - فاحضره. أدخل العود بخفة من تحت الباب وأزاح العلبة, وفتح الباب دون أن يحدث أي جلبة. حينها أوشكت قلوبهم أن تبلغ الحناجر من الخفقان. أي خطأ بسيط سينبه القناص, وبعدها سيفجر رؤوسهم. دخلوا على صالة وأشار البكري لمحمود أن يؤمن باقي الشقة, بينما اتجه وفضل إلى الغرفة التي يأتي منها الغناء. وبسرعة وثبوا إليها. كان في بال البكري حين وثب أن يفعل مثل تلك المشاهد السينمائية فيشهر السلاح في وجه القناص ويقول: أي حركة سأضرب بالمليان, والقناص سيستسلم.

حين دخلوا, كان القناص جالسا بجانب الجدار الأيمن معتليا على دكة. وإذا بفتى كان قاعدا على الأرض بجانب الباب يتنبه لهم سريعا, ويهوي بيده ليتناول بندقيته, وكان وجهه ينظر إلى البكري بنظرات حقد نارية, لكن البكري بلمح البصر باشره بثلاث طلقات سريعة على صدره من مسافة أقل من مترين, وعلى الإثر باشر فضل اللحجي القناص الذي كان ما يزال متكئا ومستمتعا بالقات, باشره بثلاث طلقات في قذاله. فأما الفتى فقد توتر جسده لوهلة, ثم ما لبث أن سقط منكفئا على وجهه, ومخارج الطلقات قد بدت من ظهره, والدم يشخب من صدره على الأرض صانعًا بركة أخذت تنداح وتنداح, وأما القناص فقد تناثرت أجزاء من مخه على الجدار, وانكبَّ على وجهه إلى المتراس الذي اتخذه له. شقت الرصاصات قذاله فصار كوردة دموية ضخمة, يندفق الدم منها كفسقية ويصنع بركة دموية أخرى. كانت لحظة عصيبة ! لولا أن البكري كان ممسكا بسلاحه ويده على الزناد لكان الفتى الناري العينين قد سبقه وقتله وفضل.

جاء محمود في إثر سماع الرصاص وأخذ والبكري يتفحصا الغرفة التي كان القناص يرسل منها الموت. أقام القناص في المنتصف منها تقريبا جداراً من الطوب الإسمنتي يرتفع إلى قرب السقف, ويمتد من الجدار الأيمن إلى قرب الجدار الأيسر, تاركاً فتحة ضيقة للولوج إلى النصف الأخر من الغرفة المطلة نافذتها على مواقع المقاومة, وقد صنع القناص كُوّة للرمي بحجم طوبة أو تزيد في الجانب الأيمن من الجدار أمام الدكة التي كان يقبع فيها. كانت الكوة تطل مباشرة على النافذة التي في الأمام. لم يكتف القناص بذلك بل دعم الجدار بأكياس الخيش المملوءة بالتراب صانعا مترسا ممتازاً لصد الرصاص والشظايا. كانت البندقية في وضع الاستعداد لرمي أي هدف يظهر في مجال الرمي. كانت موضوعة على أكياس التراب ومسنودة من الأمام بطوبة, وتصل إلى حافة الكوة لكنها لا تدخل فيها. لعله بذلك يمنع من ظهور دخانها وكشف موقعه. خلف البندقية كانت خرقة مفتوحة وقد خرج منها أغصان طويلة سمينة وغضة لقات فائق النضج والحلاوة. قال محمود في نفسه حين رأها : "الملاعين كانوا يعلفونهم أفخم أنواع القات ! لولم تتلوث بدم القناص النجس لكانت جائزتنا اليوم ".

 دفع محمود القناص إلى الأرض, وأطل من الكوة, وأخذ ينظر فإذا به يشاهد عمارتهم بوضوح, ويشاهد الثقوب التي كانوا يرمون منها. " آه يا ابن الكلب ! كنت في موقع متحكم. الآن كشفنا سرك ".  

لم يكن القناص يصنع غير الجلوس جُلَّ يومه أمام الكوة, والاستمتاع بالقات في أوقات التخزينة وبسماع الغناء, فإن لاح له أحد باشره بطلقة ترديه قتيلا, ولعله كان يتداول القنص هو والفتى الناري العينين. عرفوا لماذا كان يقنصهم ولا يرونه أو يرون دخاناً لبندقيته, ولا يظهر له أي حركة. كانوا يرون النافذة ولم يتنبهوا, للجدر الفاصل والكوة التي كان يرصدهم منها ليوجه نيرانه القاتلة.

نظر البكري في ساعته فكانت الرابعة وخمس وثلاثين دقيقة. فقال لفضل ومحمود :

- الحمد لله ! نفذنا المهمة بنجاح ولم نتأخر كثيرا. ومعنا 25 دقيقة حتى الخامسة. يمكننا الانسحاب والوصول في ربع ساعة إن لم يصادفنا أحد. لننسحب بسرعة.

كان محمود وفضل يريدان أخذ سلاح القناصين, وكانوا مثقلين بحمولتهم من السلاح الشخصي: بندقية وثمانية مخازن معبأة بالرصاص وقنبلتان يدويتان, فقال لهما البكري :

- اتركوها ! لن نقدر أن نحمل سلاحا إضافيا. سنعود جريا لمسافة طويلة. سنعجز في الطريق بسبب الاثقال.

حين خرجوا كان الجوال لا يزال يصدح,  لكنه هذه المرة ليس بأغان عاطفية بل بزامل حوثي يقول:

ما مثلنا بين القبايل من رمى ### ما نرمي القلب والا الجمجمة

                                     الأرض تحميها وتسقيها الدما ###  ومن تعداها شربـنا من دمـه

حين سمعوه نظروا إلى بعضهم نظرات الظفر, فارتسمت على شفاههم وقسماتهم بسمات من أدرك ما في ضمير صاحبه.  

نزلوا من المبنى, ثم تأكدوا من خلوا الطريق, ثم أشار البكري إلى  محمود واثنين من اللحوج أن ينطلقوا, فخرجوا جريا واحدا بعد الآخر, وتركوا بينهم مسافة تصل إلى عشرة متار. وبقي البكري وفضل بالانتظار يغطون انسحابهم إن ظهر أحد من الحوافش. حين وصلوا الفتحة التي بين العمارتين التي جاءوا منها أخذوا دورهم في التغطية بينما لحق بهم البكري وفضل جريا. شكلوا رتلا أحاديا يفصل بين كل واحد منهم ما يقارب العشرة أمتار. وسلكوا حين عادوا المسلك الذي جاءوا منه. لكنهم كانوا يجرون جري الشارد من الموت حتى وصلوا إلى قواعدهم سالمين.