حاوره نيشان في «جلسة عمر» واحترم خصوصيته

راشد الماجد... ازرع جميلاً يعود لك

بيروت

نيشان نفسُه، غمره عزٌّ مضاعَف ممزوج بالمفاجأة، وهو يرحّب بضيفه النادر الإطلالات راشد الماجد. هوّنها على الناس: «من سابع المستحيلات أن يوافق على الحضور في لقاء. ندرة حواراته تجعله منتظراً كالعيد». ضيف ثمين، يسير بحذر بين الكلمات. يتربّص لها عوض أن تتربّص له. ويباغتها قبل مباغتته. لا يمنح ثقته للعابرين ويؤمن بالخصوصية الفردية.

قدّمه مُحاوِره على أنه «حالة استثنائية في الحب والحياة والفن»، فأكد حديثه الوصف. يضع الأمور في نصابها: «أنا ضعيف في الكلام وأشعر بالرعب»، فيأتي إلى «جلسة عمر» (إم بي سي) بعالمه المحصّن وسياجه. مبدأه في الحياة: «قلة الكلام تحميني». يقولها بصراحة، وهو يشعر بذنب التقصير في التواصل. إلى أن عوّضت «السوشيال ميديا» شيئاً من ثقل الغياب عن الحوارات لعشرين سنة، فسدّد بعض الديْن لأحبّته.

قد يلام نيشان على حواره فناناً كراشد الماجد باختراق خجول لدواخله، لكنه مشى معه بجانب الحائط، وخاف عليه كخوفه على نفسه. لم يحاوره بكونه فناناً كبيراً فقط، بل أيضاً بكونه صديقاً عزيزاً. وقد سرد خلال اللقاء فصلاً من الفضل، حين كان المُحاوِر ساعياً وراء تحصيل علمه، فتكفّل الضيف بتسديد القسط، دعماً للموهبة وإيماناً بالحق في تحقيق الأحلام.

ينطلق نيشان في الحوار كعارف بالشاردة والواردة. يعلم أين حدوده وأين يتجاوز الحدود. يعلم متى يتقدّم ومتى يتراجع. وكيف يتجرأ وكيف يفضّل احترام الخصوصية على الجرأة والسَّبق. راشد الماجد أمام الإعلامي - الصديق، ومع ذلك ظلّ يشعر بالخوف. هنا يلعب نيشان لعبة الميزان العادل. لا يغلّب كفة على كفة، ولا يبالغ في الأوزان. يدوزن الكفتين: مسؤوليته تجاه الحوار ومسؤوليته تجاه الضيف. فإن كان ضيفه من الصنف الحذر، فسيشعر بالإزعاج لو جرّب أحدهم استفزاز حذره، ولو كان صديقاً عتيقاً كنيشان. وإن كان صنفه مكشوفاً، وقصّر المُحاوِر في استخراج البقايا المُخبّأة، فهنا المجال يتشرّع على الملامة. هكذا تصبح المعادلة: حضور راشد الماجد في ذاته سَبق. وبدهاء إعلامي، يُجمّل نيشان الأسئلة لتصبح بعضاً من رائحة الشِّعر، فيعوّض ما لا تخوّله خصوصية الضيف اقتحامه. ميزان وأخلاقيات.

أكثر من ثلاثين سنة في الفن الفريد، «والآن أستطيع القول إنني تعلّمتُ كثيراً». بدت الحلقة بمثابة استعادة للدروس، خرج منها راشد الماجد مُراكماً مزيداً من الأرباح في سجله. لم يُرد ومُحاوِره ترك ثغرات خلفهما. راحا يعممان الحديث، وفي آن يجرّانه إلى الشخصي. العِبرة الأولى: «أستدير وأمشي. أطنّش لأرتاح نفسياً». هذا تمرين صعب. فالبشر عموماً ميّالون إلى الثأر. لكن الفنان الكبير، ليس فحسب كبيراً بفنه ورقي المسيرة. الأهم، كبير بأخلاقه واتّساع القلب.

الماجد لم يفوّت ثمراً في الحلقة إلا وقطفه: بإعلائه قيمة الغفران، ولو تسبب أعزّاءٌ بالأذى. بالنظرة الإيجابية إلى المستقبل والأهداف. برفض السلبيات وتجاوُز الطعنات. بالفخر بـ«رشّودي» الذي كان صغيراً حين بدأ الغناء، وبعد ثلاثين سنة، أصبح يدرك عظمة الصبر، والإصغاء قبل الكلام، واستخلاص القوة من أكثر أصناف الغدر تسبباً بشلّ الروح وهدمها. «حان وقت الحصاد»، يقولها بثقة وهو يستعيد حماسة الصبي الذي كانه، مُقبلاً على الفرص، متسلّحاً بدعاء الأم ونصيحة الأب، مسافراً وراء الأحلام، مصمماً على افتراسها.

فنان يبلغ مرتبة الشبع، أسمى المراتب. لا يزال متحمّساً كالبدايات، متمسّكاً بالنجاح بكامل إرادته، طامحاً، حالماً، ساعياً، وعنيداً؛ لكن مقابل الشعلة الداخلية، هناك الشمس التي يتّسع دفؤها للجميع خارج الأنانيات. راح يتحدث عن كبار الفنانين بالوهج ذاته حين يتحدث عن فنه ونفسه. هو، باعترافه، رجل دبلوماسي؛ إنما ما عكسه هنا تحديداً، رفعة التربية وصدق الأدب. وفيما آخرون يصغرون بالحسد والتحطيم، ذكّر راشد الماجد بفلسفة «الكارما»: «ازرع جميلاً ليعود لك».

منطقُه أنّ الفنان لا يمكنه الإصغاء إلى أغنياته طوال الوقت. سيُصاب بالملل. ثم إنّ إبداع كبار كمحمد عبده ورابح صقر وعبد المجيد عبد الله وماجد المهندس، سيحفّز على ولادة مزيد من الإبداع، ويحرّك في داخله رغبة تقديم «الفن المختلف». «أتؤمن بالحسد؟»، يردّ على نيشان بأنه موجود، لكنه ليس هاجسه: «التفكير به وتحميله مسؤولية ما يجري، يسلبان منّا الطاقة الخلاقة. أفضّل التركيز على الأهداف».

طريفٌ، لطيف، وهو يعترف بأخطر سرّ: «أحب الطعام كثيراً!». «غيرُ الطعام؟»، يلحّ مُحاوِره على دسّ الملح في الجرح: «الطعام فقط!»، يردّ ضيفه من دون اكتراث للجروح المملّحة. ويضيف كشيء من سرد النكات على الذات: «رأسي ثقيل من خدودي! إنها تكبر، خصوصاً في شهر رمضان»! لكنّ نيشان تلقّاه: «يدفعون المال لتكبير الخدود. عليك أن تفرح!».

وبفرح، تحدث عن السعودية، موطنه: «أرى فيها مستقبلاً جميلاً ومشرقاً»، وعن همّة حكامها: «الإصرار هائل على النجاح وتطبيق الرؤية. حلم كل سعودي يتحقق». رقيق الحوار، رقّة ضيف يغمره السلام الداخلي. «هل أنت سعيد؟»، يختصر نيشان رحلة العمر بسؤال. «أنا راضٍ. الحمد لله». برَّ والديه واحترم فنه وترك في الناس أصدق انطباعات. الرضا مكافأة السماء.