الأعمال الفنية كالألعاب الأولمبية.. صيفية وشتوية.

هل يستقيم الفرز الموسمي والمناخي مع الثقافة

متابعات

إذا ما استثنينا المطربة اللبنانية فيروز -التي تبقى دائما خارج التصنيف- في أغنيات لها مثل “آخر أيام الصيفية” و”رجعت الشتوية” أو “حبيتك بالصيف.. حبيتك بالشتاء”، فإنه يمكن تقسيم الأغاني وأجناس فنية أخرى إلى صيفية وشتوية.

نعم، يمكن تصنيف الفنون على أساس فصلي أيضا.. تماما كالألعاب الأولمبية التي يجري بعضها في البحر وعلى الشواطئ وتحت السماوات المفتوحة، وبعضها الآخر فوق الجليد والثلوج وداخل القاعات المغلقة.

صيف هذا العام الذي أرخت فيه جائحة كورونا بظلالها للعام الثاني على التوالي، لم يخل من مهرجانات ولقاءات فنية تمت في الهواء الطلق، وحافظت على مواعيدها كما حافظت على بعض التباعد الاجتماعي والبروتوكولات الصحية.

 لا تتجزّأ، فمن كان عديم الموهبة في الصيف لا يمكن له أن يحسّن من أدائه في الشتاء مهما اجتهد

الجائحة غيّبت مهرجانات عريقة أو جعلتها تؤجل مواعيدها إلى السنة القادمة، لكن الصيف لم يخيب عشاقه في آخر أيامه فكانوا على موعد مع نكهة الفنون التي ارتبطت به مثل مهرجان جرش الذي ختم فعالياته بحفلة للفنان الأردني عمر العبداللات، الذي وصفته الصحافة الأردنية والعربية بمسك ختام المهرجان.

الفنون المرتبطة بالصيف عادة ما يغلب عليها المزاج المرح الخفيف الذي يميّز هذا الفصل المتحرّر من جدية الشتاء ورصانته. وهذا الأمر ينطبق على كافة المجالات والنشاطات البشرية بما فيها القراءة التي تعتمد كتب الجيب الصغيرة بمحتوياتها “الخفيفة” على الشواطئ.

ظل هذا “اللايت ستايل” أو الأسلوب الخفيف يلازم فصل الصيف في مختلف الفنون السمعية والبصرية، وله عشاقه في مختلف الثقافات، ولكن بمستويات مختلفة قد تجمع بين المغني الأميركي المعروف باسم كانييه ويست، ومغنين عرب مثل عمرو دياب وتامر حسني وغيرهم.

الصيف وما يرافقه من عطلة ونزوع إلى الكسل والارتخاء، عوامل تفرض ذائقتها الخاصة على الأفراد والجماعات فتنتشر أفلام البحر والفرفشة منذ شريط “البنات والصيف” لعبدالحليم حافظ وسعاد حسني إلى يومنا هذا.

وكذلك ينطبق الأمر على الأغاني والمسرحيات والحفلات الاستعراضية التي تقام في فضاءات رحبة ومدرجات مكشوفة، أما الشتاء فيفرض جدّيته ويرخي بمزاجه الهادئ الرصين في القاعات المغلقة ومع جمهور أقل عددا.

هذا الفصل الذي ارتبط بالمعاطف السميكة والمخمل الأحمر والأنفاس الدافئة يفرض بدوره مزاجا من نوع آخر في مختلف الفنون، لذلك تقام فيه النشاطات التي تعتمد الهدوء والتأمل وكذلك الأحلام الرومانسية في مختلف أنحاء العالم وعلى مر العصور، فأغنية “ونتر وورلد أوف لوف” أي “عالم شتاء الحب” مثلا للبريطاني إنجلبرت همبردنك (مواليد الثاني من مايو 1936) حقّقت نجاحا عالميا أواخر الستينات، حيث استمرت على قوائم أفضل الأغاني البريطانية لمدة أسابيع عديدة.

لا فرق بين العالمين العربي والغربي في هذا “الفرز الموسمي والمناخي” للفنون السمعية والبصرية، ومستويات الإقبال عليها، فهي وفي النهاية ميولات وأهواء تفرضها الطبيعة البشرية، لكن يمكننا التحدث هنا عن النوعية والمستوى الفني لكل ما يقدّم.

الفنون الشتوية هي حقا كما الرياضات الشتوية، تقام عادة في القاعات المغلقة، وأمام جمهور محدود، لكنها تتطلب الدقة والتركيز والكثير من الانضباط، إذ ليس من المحبّذ أن يستمع جمهور صيفي إلى عازف بيانو على مدرج روماني عريض فسيح، وليس من المعقول أن يحشر في قاعة صغيرة موسيقي بوب أو راب أو جاز.

هذا على مستوى ظروف التقديم والترتيبات اللوجستية، أما على المستوى الفني فلا فرق بين نجاح في قاعة مغلقة ونجاح في قاعة مفتوحة، كما لا فرق بين ميدالية ذهبية في أولمبياد صيفي، وأخرى في أولمبياد شتوي.

وإذا ما ذهبنا بعيدا في هذه المقاربة الرياضية الفنية، فإن المسألة لا تتعلّق بمفاضلة بين هذا اللون الفني أو ذاك، بقدر ما تتعلّق بطبيعة الأشياء، إذ لا يمكن أن تقول عن مسرح الكابوكي الياباني مثلا إن إيقاعه بطيء مقارنة بمسرح كوميديا ديلارتي الإيطالي، ذلك أن لكل جنس فني إيقاعه الخاص.

أما في عالمنا العربي، فالرداءة تتفوّق على الإتقان في أغلب الأحيان سواء تعلق الأمر بما يقدّم فوق مدارج الهواء الطلق أو القاعات المغلقة، فمن كان عديم الموهبة في الصيف لا يمكن له أن يحسّن من أدائه في الشتاء.

لكن هناك أمر في غاية الدقة والأهمية، ويمكن أن يقلب المعادلة من عرض فني ضد آخر، وهو طبيعة الجمهور التي تتدخل فتحسم الكفة لصالح فنان على آخر.

جمهور الصيف هو عادة من المصطافين والباحثين عن الانطلاق والانفلات و”الهيصة” من الشباب، ويهمّه التفاعل عبر التمايل والرقص مع الأغاني الإيقاعية أو الضحك مع المضمون المسرحي والسينمائي الشعبوي الخالي من القيمة الفنية.

أما جمهور الشتاء فإنه يأتي إلى عنوان بعينه دون آخر، يعرفه جيدا من حيث المكان وطبيعة ما يقدّم فيه من ناحية الجودة الفنية. وإذا قرأ هذا الجمهور كتابا فإنه يختاره من المكتبة بعناية ولا يقتنيه من الأكشاك على الشواطئ والمنتجعات الصيفية.

وليس من الوجاهة التعميم في هذه المسألة، ووضع كل الفنون في سلة واحدة على أساس التصنيف الموسمي، ولمجرد تقسيمها إلى فنون ذات طبيعة صيفية وأخرى ذات طبيعة شتوية، فالأمر لا يتعلق بثياب ومقتنيات وإكسسوارات.

هناك عروض فنية ضخمة نجحت في مسارح صيفية فسيحة، وتفاعل معها جمهورها دون هرج أو مرج، وفي المقابل هناك فنون قُدّمت في أماكن قيل عنها نخبوية أو شتوية الطبيعة، لكنها فشلت فشلا ذريعا.

كانت أم كلثوم تقدّم أغانيها في قاعة مغطاة ومحدودة العدد من الجمهور، لكنها قادرة، وفي نفس الوقت، على ملء وتعبئة أكبر وأوسع مساحات الفرجة صيفا وشتاء. كذلك كان الأمر ينطبق في الغرب الأوروبي والأميركي على مغنين من قامة شارل أزنافور ولوي فيري وديميس روسوس ونجم البوب مايكل جاكسون.

أما في المسرح فيمكن لأقطابه الكبار أن يكونوا صيفيين وشتويين في ذات الوقت، إذ يستطيع مسرح بيتر بروك، أو أرييل منوشكين أو بينا باوش، أن يحشد الآلاف من الجمهور دون انقطاع، ودون سؤال عمّا إذا كانت أسقف القاعات مغطاة أو مكشوفة.