كتاب عماني يدون سيرا وقصائد لشاعرات من أجيال متباعدة

الشعر الشعبي يبتكر "اللغة البيضاء" ويتجاوز المنطوق

متابعات

يضم كتاب “ترانيم من الشعر الشعبي النسائي” قصائد لشاعرات عمانيات كتبن الشعر الشعبي، وصلت معدّته سعيدة بنت خاطر الفارسية إليهن من خلال رحلة بحث استغرقت ثلاث سنوات وثقت فيها سيرا وقصائد لشاعرات راحلات أو مسنات أو من الأجيال الجديدة.

ويعرف هذا الكتاب الأنطولوجي، الصادر ضمن منشورات الجمعية العمانية للكتاب والأدباء لعام 2022، بالشعر الشعبي؛ وهو كل شعر يعود إلى شعب ما، ويحمل سمات لغته الصوتية وخصائصه اللغوية، ويحكي لسان حاله وقضاياه الحياتية. ويكتب الشعر الشعبي باللغة المحكية المغايرة للفصحى، ويطلق عليه في العادة “الشعر العامي”؛ أي الذي يتحدث به العامة.

لكن الفارسية ترى في مقدمة الكتاب أن الشعر الشعبي لم يعد كذلك؛ فليس هو الشعر الذي يكتبه العامة ويوجه إليهم فقط، فقد أصبح الشاعر الشعبي مثقفا متعلما وحاصلا على أرفع الدرجات، ومن ثم “فهو ناقد وأديب وقارئ للثقافة بشكل عام، ومستفيد من تطورات الشعر الفصيح وقضاياه الفنية”.

تشير الباحثة إلى أن الشعر الشعبي يتراوح بين ثلاثة أنماط؛ أولها الشعر الشعبي الغنائي، وهو شعر مرتبط بالفنون العمانية الغنائية، ويمكن أن يطلق على هذا النمط “الشعر العامي”، لأنه يخرج من العامة ويوجه إليهم؛ نظرا إلى ارتباطه العميق بالمفردة النابعة من بيئته. ووفقا للفارسية، يبدو أن الشعر الشعبي الغنائي يولد ملحنا لارتباطه بالغناء، وأمثلته في عمان كثيرة، ومنها: فن اتشحشح، أمبم، بوعبادي، أبوالزلف، الويلية، فن الدان دان، المسبع، فن الزفة والمناني، فن الشرح، الميدان، فن زفة العروس، فن المغايض، المزيفينة، فن الحمبورة وفن التعويبة للنساء. ومنه كذلك فنون محافظة ظفار الغنائية مثل: الطبل والربوبة والبرعة والهبوت، وفنون البحر مثل الشبانية، وفنون الجبل: دبرارات، النانا والمشعير. فكل هذه الفنون تخرج أشعارها بلحن مغنى أو بإيقاع معلوم.

وثاني أنماط الشعر الشعبي هو الشعر النبطي، الذي يكتب بلهجة واحدة لا يستطيع أحد مخالفتها أو الخروج على مسارها، ويتكون من شطرين متوازنين ينتهي كل منهما بقافية موحدة، لكن قافية العجز مختلفة عن قافية الصدر، ولا يشترط الالتزام بقافية موحدة للصدر في بعض البحور، وإنما يكتفى بالتصريع في البيت الأول كما هو الأمر في الفصيح.

وتشير الفارسية إلى أن لهجة أهل نجد الأصلية تعد اللهجة المعروفة للشعر النبطي، وأن ذلك النمط ينتشر في منطقة نجد والبادية والخليج العربي، وبعض أجزاء من بادية الشام مثل الأردن، وكذلك في سيناء.

وثالث هذه الأنماط، بحسب الباحثة، هو الشعر الشعبي الحديث، حيث دخل التحديث للشعر الشعبي وتغيرت أشكال كتاباته، إلى درجة أن بعض الشعراء الشعبيين العمانيين قد تخلوا عن الشعر العمودي القائم على الشطرين، وكتبوا شعرهم على نظام التفعيلة، واجتاحت السردية كثيرا من كتاباتهم، وهذا الأمر شاع بينهم ذكورا وإناثا، بل كتب بعض المحدثين المجددين للشعر الشعبي قصيدة النثر الشعبية على استحياء، إلا أن هذا تجديد لا يمكن تخيل وجوده لو كان الشعر الشعبي يوجه للعامة فقط، ويقتصر على الشفوية في التلقي.

وتوضح الفارسية أن الأمر تطور إلى كتابة الشعر الشعبي في ديوان شعري مكتوب فقط وغير منطوق، على خلاف ما كان في السابق من وجود تسجيلات صوتية للشاعر كي يفهم من لا يجيدون اللهجة قصائده المكتوبة. ويمكن أن يطلق على الشعر الشعبي الحديث “الشعر المتغير المتحول”؛ لأن قائله يحاول أن يرتقي به حتى وصل إلى ما يعرف بـ”اللغة البيضاء”؛ أي المفهومة من الجميع، والقريبة جدا من الفصحى في مفرداتها، لكنها متحررة فقط من قواعد الفصحى النحوية.

تقول الباحثة في المقدمة “عندما شرعت في فكرة هذا الكتاب، تخوفت من عدم الحصول على مشاركات تستحق أن يخصص لها كتاب مستقل، خاصة أنه سيضم شاعرات من فترات زمنية متباعدة. ولا شك في أن الموضوع كان مرهقا في البداية، ثم مضت الأمور بسلاسة، إذ أصبحت كل شاعرة تجذب الأخرى؛ خاصة بعد أن جمعتهن في مجموعة واحدة على تطبيق واتساب. ثم طلبت من كل شاعرة تزويدي بشاعرات كبيرات في السن من كل منطقة، وتلك مرحلة أتعبتني جدا لعدم حضورهن في الذاكرة، ولعجز الذاكرة الشفوية عن استحضار ما هو أبعد من 150 سنة، وهذا أمر متعارف عليه في الدراسات الإنسانية، فدخلت في مرحلة الزيارات الميدانية إلى أقاربهن”.

وحول الصعوبات التي واجهتها خلال البحث تشير الفارسية إلى أن أبرزها كان صعوبة فهم اللهجة القديمة التي تجاوزها الزمن، إلى درجة أنها اضطرت لوضع هوامش تشرح فيها الكلمات التي يصعب استيعابها في الوقت الحالي.

وقد أدرجت الباحثة لكل شاعرة ثلاث قصائد. أما الشاعرات الغنائيات، وبسبب قصر مقاطعهن، فأدرجت لكل واحدة منهن عددا أكبر من المقاطع، وكذلك فعلت مع الشاعرات القديمات، لعدم توفر فرص النشر لهن ولوفاة أغلبهن.

ولم تتدخل الباحثة، كما تشير في مقدمتها، في كتابات الشاعرات وسيرهن إلا ترتيبا وتصحيحا، وما كان ضروريا من تعديلات. وتضيف أن بعض قصائد الشاعرات الغنائيات يجتاحه الخلل بالنقص أو الزيادة، وهذا أمر طبيعي في الشعر المصحوب بالإيقاع واللحن، إذ يعوض الشاعر عن نقص التفعيلة بمد اللحن، وبقصر الإيقاع يعوض عن الزيادة، هذا بالإضافة إلى اختلاف اللهجات التي توقع في اللبس أثناء نطق الكلمة، مما يؤثر في ضبط التفعيلة.

ويجمع الكتاب الذي صدر بالتعاون مع “الآن ناشرون وموزعون”، بين دفتيه سيرا وقصائد لست وستين شاعرة أدرجت أسماؤهن فيه تسلسلا باعتماد الترتيب الألفبائي.