«مدينة الظل»... عين أخرى على كابل

القاهرة

تستكشف الكاتبة الهندية ذات الأصول الأفغانية «ترن ن. خان» في كتابها «مدينة الظل» («دار جليس» المصرية بترجمة عبد الرحيم يوسف) حاضر العاصمة الأفغانية «كابل» وماضيها، عبر جولة داخل أحيائها وشوارعها. بعين أخرى تصف مشاهد الدمار والتطرف والحياة وسط جحيم الحروب والمعارك والانفجارات، مقدمةً للقارئ صورة قد لا يعرفها عن أمراء الحرب ومحدثي الثراء بعد سقوط «طالبان» عام 2001.
إنها تعايش أحياء المدينة وضواحيها الحديثة والمناطق الهامشية التي تضم مهاجرين ريفيين، وتنقل صوراً لأكشاك الصفيح والمخيمات والبيوت المتنقلة. وهي تمزج كل ذلك بحكايات عن الأماكن التي عاشت فيها في موطنها بالهند، وبحكايات من تاريخ عائلتها ذات الأصول البشتونية، أو الباتانيين كما يسمونهم في الهند.
بدأت خان أولى زياراتها لكابل في بداية عام 2006، بعد 5 سنوات من الإطاحة بحكومة «طالبان»، وكانت أول نصيحة أمنية تلقتها فور وصولها، أن السير في الشوارع خطر داهم؛ لكنها تجاهلت ذلك، وقامت بأول جولة لها في المدينة عبر سوق «ماندايي»، في الجهة الجنوبية من نهر كابل؛ حيث الأزقة الضيقة، وواجهات المحلات وهي تتمدد ببضاعتها في الشارع، والباعة بعرباتهم، والطرقات التي تمتلئ بأكوام الفاكهة المجففة، وصفائح زيت الطعام، والصابون، والسرادقات المقامة فوق بعض المحلات، وأغطية البالوعات التي تصادفها في الشوارع وهي في طريقها لزيارة بيوت الأفغان.
كما ترسم صورة للجسور التي تحولت إلى أماكن لبيع السلع، والجبال التي تطوق كابل؛ خصوصاً جبلي «كوهي شير داروازه»، و«كوهي أسماي»، اللذين يفصل بينهما نهر راكد بمياه ضحلة تغطيها القمامة، متأملة مدينة كابل القديمة، وشوارعها شبه الخالية، وآثار الرصاص على الجدران، والحواجز التي تغلق الطرقات، وسلسلة جبال بغمان.
وكلما سارت أكثر تكتشف أن الحروب جعلت كابل مدينة «فاقدة للذاكرة»؛ رغم أن عمرها يقارب 3000 عام. ووجدت أن السير في الشوارع والأحياء والأسواق يتيح لها طريقة حقيقة لنبش التاريخ والتنقيب في الحاضر.
سجلت خان في كتابها الذي حصد جائزة «ستانفورد دولمان» البريطانية لأدب الرحلات عام 2021، كثيراً من الذكريات والقصص والشذرات والأساطير والحكايات الخرافية، وتمكنت من أن تربط بين عصور المدينة ذات الطبيعة الكوزموبوليتانية، وبين ثرائها الخفي، دون أن تلجأ إلى أي خرائط تبين لها في أي من الدروب تضع خطواتها.
كانت مقتنعة بأنها عندما تتوه سوف تتوفر لها طريقة مدهشة لرؤية الأماكن الجديدة، وإعادة تخيل البقع التي تبدو معروفة، وترسم خريطة كابل الباطنية بحدائقها المورقة وبيوتها الجميلة، ذات الحجرات المليئة بالكتب والسجاد والصور الفوتوغرافية والموسيقى.
في منطقة ساري كوتال، وضاحية خير خانة، الأقدم في شمالي كابل، اكتشفت أن أسطح البيوت المتلاصقة والمصنوعة من الطين تشكل نوعاً مختلفاً من الطرقات، والدروب المرتفعة للسير عبر مساحات معزولة ومحمية من نظرات العامة، بينما تعكس نوافذها السماء من جانب، وتكشف لمحات من الحياة في الغرف داخلها من جانب آخر.
وفي مواجهة العقارات الحديثة التي شكلت فقاعة إنشائية في المدينة، وأبقتها طافية دولارات المعونات وأرباح تجارة الأفيون، هناك أيضاً كانت العمارات الأقدم في المستعمرة السكنية زمن الحقبة السوفياتية شرق كابل. كما ارتفعت أبنية جديدة في أنحاء شهري ناو؛ حيث تم هدم كثير من البيوت القديمة، وحلت محلها عمارات سكنية بُنيت بالزجاج والخرسانة بمواد مستوردة من باكستان والصين، منحت إطاراً من البريق القاسي لمنظر كابل، وعكست المكاسب السريعة التي حققها الأقوياء، وطموحات كثير من أفراد النخبة الأفغانية الجديدة.
تجاور هذا كله عبر أجزاء من المدينة مع «قصور الخشخاش»، وهي قصور فخمة سُميت هكذا بسبب الأصل المحتمل لتمويلاتها. وكانت غالباً مملوكة بشكل مباشر أو غير مباشر للسياسيين وأغنياء الحرب ورجال الأعمال، الذين قاموا ببنائها على طراز معماري يشبه كعكة الزفاف، دُهنت بألوان وردية وخضراء وصفراء صارخة، وتفاخرت بأعمدة رومانية وشرفات منحنية وقباب باذخة وقرميد لمّيع على الجدران الخارجية، بما يعكس أفكاراً مستوردة عن الترف والتحديث المستمدة من مدينتي دبي وبيشاور؛ حيث يوجد مجتمع كبير من اللاجئين الأفغان، وتحولت إلى واقع على يد بنائين محليين، وقد تصدرت بواباتها لوحة بشكل بارز مكتوب عليها «ما شاء الله» لتبعد عين الحسود.
تابعت «ترن خان» مدينة كابل، وهي تتجول وراء أطلال الأسوار الطينية، فرأت بيوتاً جديدة ترتفع على أنقاض الحرب، وهياكل سيارات الجيب والدبابات القديمة مستخدمة في بناء البيوت. باب مركبة أصبح جسراً، والحديد أصبح جدراناً واقية. لقد أعيد ترتيب بقايا الماضي داخل مشهد جديد مبني على نوع من الأمن النسبي. لكنها لاحظت رغم كل هذا وجود علامات للتفكك بدت بالظهور المجدد لفصائل «طالبان» في أنحاء البلاد، وتصاعد الاستياء من الفساد والمحسوبية في الدوائر الحكومية، بسبب استخدم أموال المعونات على نحو سيئ، وتردي حال الخدمات في العاصمة؛ حيث صار من الصعب الوصول إلى المياه والكهرباء.
تقول: «هناك ما ينذر بشرٍّ أكبر، بعدما صارت العاصمة الأفغانية هدفاً للتفجيرات الانتحارية والقنابل وعمليات الاختطاف التي وضعت أفغانستان في المرتبة العاشرة ضمن مؤشر الدول الفاشلة، بحسب ما نشرت مجلة (فورين بوليسي) و(صندوق السلام) في تقريرهما السنوي الثاني عام 2006».
لكن يبقى الأخطر في جولة خان في كابل عودة دائرة الصراع التي بدأت قبل ذلك بخمس سنوات، وكانت تخفي تحتها جولات دامية من التنافس العرقي والعنف الطائفي، وتجارة الأفيون، والتنافس بين فصائل مختلفة للسيطرة على مكاسبها في غياب الحكومة التي كانت مشغولة بمستويات عالية من الابتزاز الرسمي، ومثقلة بميراث ضخم من جرائم الحرب والإفلات من العقاب. «كان كثيرون يلهثون للحصول على بعض من أموال المساعدات التي جلبت الفساد في أعقابها، وكانت كابل مركزاً لكثير من هذه الممارسات، فقد كانت المدينة الأولى التي وصلت إليها هذه (المكاسب) والتغيرات، فضربتها بشدة، وتصادم فيها الجديد مع القديم، والنخبة الأفغانية مع المهاجرين من الأقاليم، والمواطنون مع الحكومة».