حجر يسقط في عشق صاحبته ويخوض رحلة عجيبة بين الأساطير والواقع

وكالات

التناص من أهم المفاتيح الإجرائية لفهم الأدب ورصد عملية التثاقف والحوار بين الحضارات الفكرية والفنية والأدبية. يساعد التناص على الدخول إلى أغوار النص، واستكناه دلالاته وتفاعلاته الخارجية والداخلية، لأن النص ما هو إلا شبكة من العلاقات والتفاعلات الذهنية ونسق من المصادر المضمرة والظاهرة التي تتوارى خلال الأسطر، وتتمدد في ذاكرة المتلقي.

ونص “الحجر العاشق” لأحمد فضل شبلول كغيره من النصوص يتناص مع غيره من نصوص كثيرة، ليس هذا فحسب بل إنه بوصفه عملا روائيا يتعالق مع عصور من المعرفة الإنسانية والحضارية والتاريخية.

أنواع التناص

من أنماط التناص الذي نجده في “الحجر العاشق” التناصية الداخلية، ومعناها دوران الأثر الأدبي حول ذاته، واستعماله لآثار مستعملة من قبله أو من إنتاجه. وأمارات ذلك في النص الذي بين أيدينا من العنوان “الحجر العاشق” وهو ثالث ثلاثة من ثلاثية العشق: الماء العاشق، واللون العاشق، والحجر العاشق، للمؤلف نفسه، وهي أعمال مختلفة في موضوعاتها.

ليس هذا فحسب، بل نجد الكاتب يستدعي شخصيات من الرواية الأولى “الماء العاشق” مثل عمر ياسين الذي جعله مرتبطا بآصرة صداقة مع بطلنا زمرد أو الحجر العاشق، وكذلك استدعى أماكن من الرواية الأولى كبئر مسعود في سيدي بشر.

كذلك استدعى شبلول شخصية جنية البحر (أم الماء) من الرواية الأولى “الماء العاشق” وكرر نفس المشهد “قالت له على مسمع مني: هذه الليلة جئت من أجلك أنت يا عمر”، واقتباسه من كتابه “عائلة الأحجار”.

كما ذكر شبلول حفل الزفاف الذي ستقيمه الملكة كليوباترا وجنية البحر وهدى تحت الماء في روايته “الماء العاشق”. يقول شبلول في روايته “الماء العاشق” عن حفل الزفاف تحت الماء “طلبت كليوباترا من هدى أن ترقص، فهي تعرف أن المصريات بارعات في الرقص، خاصة في الأفراح والليالي الملاح، ولا توجد أجمل من تلك الليلة. لم أعرف أنها تجيد الرقص الشرقي إلا عندما شاهدتها الآن. تقدم تابلوهات شرقية راقصة مثل التي قدمتها سامية جمال وتحية كاريوكا ونعيمة عاكف، إن لم تكن أروع”.

أخذ الماء يصدر ألحانا وأصواتا إيقاعية، استجابت هدى لها، فقدمت ألوانا أخرى من الرقص الشرقي والهندي والأفريقي، وفنونا جديدة لم أشاهدها من قبل، ولم أعرف ماذا أسميها. قامت حوريات البحر وأخذن يرقصن مثلها. استخف الرقص بجنية البحر مليكة البحار وأم الماء، فأخذت تدندن في البداية، ثم قامت من على عرشها وأخذت تقلد هدى في حركاتها ورقصها واهتزاز جسدها وتردده وذبذباته. قالت: الآن أزوج الشمس للقمر، والسماء شاهدة على ذلك.

ثاني أنواع التناص التناصية الخارجية، حيث يفيد الأثر الأدبي من التشكيلات الرمزية المؤسسة من قبل، والتي استقرت في أذهان الجمهور، من ذلك استدعاء شبلول الرموز الشهيرة، يقول “التقيت الرجل الذي يشبه كمال الشناوي أو خالد صفوان في الكرنك هو النموذج الأمثل لرجل الأمن الذي تستدعيه ذاكرتي”.

والحديث عن فيلم “أفاتار” الشهير، وشجرة الاحتفال المقدسة لشعب نافي، حيث يضرب المؤلف الأمثال، أو يسقط على علاقة الشعوب الضعيفة بالأمم الاستعمارية القوية التي تريد أن تنهب الثروات بإشعال الحروب في العالم الثالث.

يعتمد شبلول في روايته على الباروديا، وهي المحاكاة الساخرة التي يتقاطع فيها الواقع واللاواقع، الحقيقة واللاحقيقة/ الخيال، حيث تقوم الرواية كلها على شخصية الحجر زمرد العاشق الذي يقع في غرام صاحبته الدكتورة منال عثمان، والذي يأخذنا في رحلة عجيبة من الأساطير والواقع والتاريخ والوقت الراهن، من العلوم والحقائق العلمية إلى شغف المستقبل وسحر الوهم، هذا الحجر ذو الوعي الحجري الذي يشبه كثيرا الوعي البشري، هذا الحجر الذي يفيض رقة وعذوبة وعشقا وغيرة على محبوبته من زوجها، الزمرد الذي يمتزج بروح منال ويسري في مشاعرها، ويدغدغ أوصالها، ويحرك عواطفها، بل ويؤججها لتصل معه إلى نشوة عجيبة، لا تجدها مع زوجها.

يقول “ترى لو ظهرت أعراض الحمل الآن بعد شكوك الدكتور علي حول العلاقة بيني وبين منال سيعتقد أن ما في بطنها جاء مني؟ يبدو أن ما جاء في حكاية الإله ‘ذو الشرى‘ من الممكن أن يتكرر في القرن الحادي والعشرين، لكنني لست إلها، ومنال ليست حاتيبات. من يدري! نعم أنا لست مجرد حجر كريم”.

تتجلى الباروديا هنا، وعلى مدار صفحات الرواية، حيث يتكئ شبلول على الأسطورة، وينسجها مع معطيات الشخصيات ذات المرجعية الواقعية كالدكتورة منال، ويجدلها بجديلة ساخرة لا تملك إلا أن تبتسم وأنت تقرأ عن المرأة التي يمكنها أن تحمل بابن الحجر في القرن الحادي والعشرين، ولكن السرد الذكي يأتي بهذا من خلال وعي زمرد ومناجاته لنفسه عن طريق المونولوج الداخلي.

كما يتأسس النص الروائي على المعرفة الخلفية للمؤلف والمتلقي، ويتضح ذلك من ثقافته الواسعة التي ظهرت بوضوح شديد في الأساطير والتاريخ والفيزياء وأنواع الأحجار، وهي ما أسماه في عتبة نصه بالمعلوماتية.

يمتلئ نص “الحجر العاشق” بكثير من المعلومات حول الأحجار والمعادن والتكنولوجيا ووسائل التواصل والتاريخ القديم والتاريخ الحديث، ويحيل القارئ إلى عصور قديمة، ومعارف حديثة في مناح عديدة من الحياة، وكأنه صورة متجسدة للعولمة وتجليها في نص إبداعي، مما يتطلب قارئا على نفس المستوى متسلحا بخلفية معرفية تواكب مبدعا مثل شبلول، وتمكنه من تحليل النص وتشريحه وإعادة تركيبه بمدونة نقدية جديدة.

من الأساليب المعتمدة أيضا نجد النصية الموازية، وتعني ما يجاور النص الإبداعي، أو محيط الدائرة النصية له من عناوين وإهداء وزخارف، وقد يطلق عليه بعض النقاد النص المصاحب، أو عتبات النص.

ولقد صدر شبلول عمله بإهداء إلى “عميد عائلة الأحجار” ثم أعقب ذلك في الصفحة التالية بعبارة “المعلوماتية والخيال العلمي في مواجهة الخرافة والأسطورة”، وفي نهاية العمل أوضح أنه يدين به إلى كتاب “مستقبل العقل” للأميركي الياباني ميشو كاكو، وكذلك كتابه هو “عائلة الأحجار”.

وتلفتنا النصية الموازية هنا إلى فهم رمزية العمل، حيث يؤمن مؤلفه بالمستقبل، وبأن العلم سحر البشرية وطموحها الدائب، لكن المشاعر النبيلة تبقى كما ختمت الرواية، مشاعر المحبة والخير والجمال في توحد الإنسان بالحجر رمزا أصيلا لذلك الحب العجيب بين زمرد ومنال.

كما يستدعي شبلول الموروث والوقائع والشخصيات التاريخية، فقد يلبس الروائي قناع المؤرخ مؤقتا، أو بشكل أدق قناع القارئ المحترف للتاريخ الذي يحفر بعمق في الأشياء بحثا عن إجابات لفرضيات تشغله. فالروائي لا يعطي قيمة كبيرة للحقيقة التاريخية بوصفها حقيقة مطلقة، ولكن يستعيرها ويوظفها في عمله الإبداعي بوصفها جزءا من الذاكرة الجمعية توظف في السرد لخدمته وإثرائه، وإيهام القارئ بواقعية ما يقرأ تارة، وليدخل التاريخ حقل الرواية مشروطا بنظامها واتساع المتخيل وحريته، ليترك صرامته وثوابته عند عتبات الرواية تارة أخرى.

التاريخ ظهر على مدى صفحات الرواية ظهورا جليا يربط القارئ بماضي البشرية، ويصله بحاضره مستشرفا نحو مستقبله

ولقد ظهر التاريخ على مدى صفحات “الحجر العاشق” ظهورا جليا يربط القارئ بماضي البشرية، ويصله بحاضره مستشرفا نحو مستقبله. أخذنا شبلول في رحلة عن تاريخ الأساطير، واستدعى شخصيات اللات والعزى وذا الشرى وأفروديت وأرتميس وإبليس وكليوباترا وقيصر وعمرو بن العاص وشامبليون ونيوتن، كما استدعى الوقائع الشهيرة كفتح مصر، ومعركة أكتيوم البحرية قبلها، ثم جاء ذكر ثورة يناير، وما حدث في مصر إبانها وتنحي الرئيس مبارك عن الحكم.

لم ينس شبلول أن يذكر سميرة موسى وقصتها، ومصطفى مشرفة وغيرهما من العلماء الذين سقطوا فريسة لأعداء الوطن. ويستعمل الكاتب كذلك الاقتباس، ومعناه أن يأخذ المبدع من القرآن والسنة ويدرجهما في كلامه بطريقة صريحة أو غير صريحة. ولقد استفاد منهما شبلول في مواضع شتى في روايته.

ومما سبق يتضح أن آليات التناص قد أسعفتنا في فهم النص وتفسيره، وعلينا أن نستبعد السرقات وما يتصل بها من مفاهيم موروثة، لأن ذلك لا يدخل ضمن التناص الذي يعد عملية إبداعية فنية مقصودة عن وعي من المؤلف أو غير مقصودة صادرة من اللاوعي عنده، لكن الغرض الفني هنا من تعالق نص “الحجر العاشق” مع غيره هو بلورة رؤية فلسفية لدى المؤلف الذي يؤمن بالإنسان، وتحقق وجوده على الأرض، ذلك الإنسان الذي يقع ضمن منظومة الكون الواسع الكبير، وأن كل المخلوقات تتوحد في كينونة نورانية واحدة، تسبح الخالق العظيم، حتى في صراعها من أجل البقاء، إنما تحقق مشيئته الحتمية في تقدم البشرية لتصل إلى آفاق لا يتخيلها إدراكنا المحدود. لذا كان التناص مدخلا نقديا لبوابة العمل الروائي لدوره المهم في إنتاجية المعنى وتفعيل دور القراءة المنتجة التي تواكب عملا غنيا مثل “الحجر العاشق”.