قصص مؤلمة عن الشتات والأسر تسقط في فخّ ما يطلبه الداعمون.

فيلما "كباتن الزعتري" و"أميرة".. معالجة باهتة لقضايا عربية حارقة

متابعات

باتت القضية الفلسطينية، وحتى السورية الأحدث منها زمنا، في مراتب متراجعة ضمن ترتيب أهمية الأخبار في النشرات وحتى برامج “التوك شو” السياسية، فلم تعد أخبارهما ولا حتى ما يجري في أراضيهما ومع مواطنيهما نقطة الخبر الحدث والأكثر أهمية كما كان سابقا، إلى درجة أن العربي صار لا يعرف عن أخيه العربي في تلك المناطق إلاّ ما ندر أو ما سمعه خطفا عبر وسائل الإعلام ونشراتها.

لذلك تبدو مسألة إعادة إحياء تلك القضايا -وخاصة الإنسانية منها- على صعيد سينمائي هامة، وربما مجزية إلى حد كبير وخاصة حين يستطيع منتجها إيصالها إلى العالم الغربي وليس فقط العربي. ولكن يبقى الخوف من الطريقة التي ستقدّم بها تلك القضايا؛ فهل ستكون فقط نقطة استثمار وخطف للأضواء، أم ستتجاوز ذلك لتصبح في حد ذاتها بقعة ضوء للتعريف بالقضايا والمعاناة التي يعيشها أهلها، وربما في مراحل أخرى تغيير ذلك وتبديل وجهات النظر الضبابية أو الغامضة المرتبطة بها؟

وفي إطار تلك العروض السينمائية يأتي فيلمان مشاركان في المسابقة الرسمية لمهرجان الجونة السينمائي في دورته الخامسة، أحدهما وثائقي طويل بعنوان “كباتن الزعتري” وهو الوثائقي الطويل الأول للمخرج المصري علي العربي ومن إنتاج مصري – أميركي، ويعتبر عرض الفيلم في مهرجان الجونة بمثابة انطلاقة له في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بعد أن سبق له أن شارك في العديد من المهرجانات العالمية، خاصة بعد أن حظي بفرصة عرضه في مهرجان صندانس الأميركي، الأمر الذي فتح له الأبواب.

في الفيلم يتابع المخرج مسيرة حياة شابين سوريين هما محمود داغر وفوزي رضوان قطيش الفاران مع عائلتيهما ومع المئات ممّن هربوا من محافظة درعا السورية، ليصبحا بالتالي جزءا من نسيج اللاجئين في مخيم الزعتري الأردني. ووقع اختيار المخرج لبطليه من ضمن مئات اللاجئين، بسبب علاقتهما المميّزة بكرة القدم، حيث تعتبر المتنفّس الوحيد لهما في ظل الظروف القاسية التي تمنعهم حتى من متابعة الدراسة، لكن حبهما لكرة القدم وممارستهما للتدريب في ظل الظروف غير الإنسانية لا يكفيان للتأهل واللعب والمشاركة خارج حدود المخيّم، إلى أن تصلهم أكاديمية أسباير الباحثة بدورها عن موهوبين شباب في كرة القدم، فتختارهما الواحد تلو الآخر لبطولة دولية.

رغم أن كتالوغ المهرجان في تقديمه للفيلم يُشير بشكل واضح إلى أن المخرج كان قد تابع حياة الشابين على مدار ثماني سنوات عاشها منتقلا معهما في رحلتهما بين المخيمات والفنادق أثناء مشاركتهما في البطولة، إلاّ أن الفيلم حقيقة لا يظهر تلك التفاصيل ولا حتى تلك المعاناة التي يعيشها الشباب وذووهم في مخيم الزعتري، حيث في أغلب الأوقات لا مناخ ملائما ولا ظروف مناسبة لحياة كريمة أو حتى محترمه، إلى درجة بات فيها الفيلم ضعيفا في طرحة لقضيته بل وباهتا في نقله لصورة الداخل. وتبدو تلك النقطة واضحة إذا قورن بالفيلم الوثائقي المصري “عاش يا كابتن” الذي رصد حياة فريق رياضي مع مدربه في ظل ظروف أقل ما يقال عنها إنها بائسة إلى درجة تدفعنا للتعاطف مع الفريق والمدرب على الصعيد الإنساني وليس فقط الرياضي.

وكان من المفروض أن نظهر الظروف التي يعانيها الشابان في فيلم “كباتن الزعتري” أكثر قسوة وصعوبة وحتى حرمانا وضيقا، كما أنه فيلم لا يمكن مقارنته نهائيا بفيلم المخرج الإيطالي إيمانويل جيروزا “قفزة واحدة أخرى” الذي تابع فيه المخرج حياة شابين فلسطينيين من سكان غزة يعيشان في مكانين مختلفين بعدما تمكّن الأول من مغادرة غزة المحاصرة لينتقل إلى اللعب والتدرّب في الملاعب العالمية، بينما بقي الآخر أسيرا لعائلته تحت وطأة وضغط الاستدرار العاطفي المطبّق عليه من الوالدة.

وحقيقة أرى أنه من المجحف أصلا مقارنة الفيلمين السابقين بفيلم “كباتن الزعتري” الذي لم يحاول أبدا الغوص في أعماق شخصياته البائسة  ولا حتى في مستقبلها، الأمر الذي يجعلنا نتوقّف طويلا ومجدّدا عند عبارة “متابعة مخرجه لشخصياته لسنوات”.

وأما الفيلم الثاني الذي أردت الوقوف عنده فهو روائي طويل بعنوان “أميرة” للمخرج المصري محمد دياب، وهو الفيلم الروائي الثالث له بعد فيلميه الهامين “اشتباك” و”678″، وهو من إنتاج مصري – أردني – إماراتي – سعودي، ومن بطولة كل من علي سليمان وصبا مبارك مع حضور خاطف للممثل الفلسطيني صالح البكري، بينما تلعب دور أميرة الفنانة الشابة تارا عبود في إطلالة مميزة تنبئ بمستقبل زاهر لها.

وفي “أميرة” يختار المخرج، الذي كتب قصة فيلمه بنفسه بمشاركة خالد وشيرين دياب، فلسطين لتكون مصدرا لقصته وموقعا لأحداثها، فتدور أحداث الروائي الطويل حول السجين السياسي القابع في أحد المعتقلات الإسرائيلية، ويلعب دوره علي سليمان وزوجته صبا مبارك وابنته، وحول رغبته في إعادة إنجاب طفل لعائلته كجزء من إحساسه الداخلي بتحقّق الحرية وبوجود روح تمثله خارج القضبان، لتبدأ رحلة معاناة تلك الأسرة بعد معرفتها أن ذلك السجين عقيم وأن ابنته التي أصبحت اليوم شابة هي ابنة غير شرعية، ولتبدأ رحلة الشكّ في الأم وكل المحيطين بها بمن فيهم أفراد العائلة.

بعيدا عن الأداء المتميّز الذي عرفناه عند الفنان علي سليمان المتمكّن من أدواته -وهو البليغ حتى في صمته الذي كان حاضرا بقوة في فيلم “200 متر” ، الفيلم الأكثر خوضا في القضايا الفلسطينية المفصلية- وظهور صبا مبارك كعادتها بأداء متّزن ومتماسك، بدا الفيلم حتى نصف الساعة الأول منه شيقا إلى حد كبير ويحمل سيناريو جديدا وغير متوقّع.

فقضية نقل الحيوانات المنوية من داخل السجون إلى الخارج وتلقيحها للزوجات في الخارج بهدف الإنجاب، رغم أنها ظاهرة معروفة لدى الفلسطينيين أنفسهم إلاّ أنها تعتبر بالنسبة إلى الكثيرين قضية غامضة وغير معروفة، الأمر الذي يجعل الموضوع في حد ذاته هاما ومشوّقا على صعيد الطرح.

لكن انحراف النص وانجرافه نحو تلك الميلودرامية التقليدية وتحويله إلى عمل عربي يحاول الأبطال فيه الدفاع عن شرفهم، وبدء الهجوم على الفتاة ومعاقبتها ولو ضمنيا بتلك القسوة والسذاجة باعتبارها من سلالة إسرائيلية، بدا بدوره أيضا ساذجا ولا يليق بموضوع يحمل كل هذا الكم من الأهمية والمقاومة وحب الحياة والتمسّك بها، وكأن الفيلم أراد أن ينسف إنسانية هذه العائلة التي أنجبت هذه الطفلة من دمها وقامت بتربيتها إلى أن أصبحت شابة تهيم على وجه المحتل.

بعد مشاهدة الفيلمين، يبقى السؤال الملحّ: لماذا يلجأ المخرجون المصريون أو غيرهم من العرب إلى قصص اللاجئين السوريين أو حتى العودة إلى الملفات الفلسطينية ونبش مواضيعها القديمة المتجدّدة، هل لأنها مازالت تلقى دعما ماديا سواء من قبل المنتجين ومنصاتهم التابعة للمهرجانات نفسها باعتبارها قضايا ساخنة؟ أو كما تذكر إحدى المنتجات المصريات أنه بعد الثورة في مصر “كان أي موضوع عنها يلقى دعما وإقبالا شديدا من الجهات الداعمة وخاصة في أوروبا، وذلك على حساب القضية الفلسطينية ذاتها، كبرى قضايا الوطن العربي، لكن ما إن بدأت الأحداث في سوريا وانتشر السوريون في بقاع الأرض حتى باتت قضيتهم الشغل الشاغل لمنصات المهرجانات وصناديق الدعم، فأنتجت حتى اليوم عشرات الأفلام عنهم”؟

أم أن الخوض في القضايا المحلية يشكّل اليوم خطرا أو خطا أحمر بالنسبة إلى الرقيب في بعض الدول العربية، الأمر الذي يدفع مخرجيها للجوء إلى طرح قضايا خارجية يمكن الخوض فيها بكل حرية وتلقى بدورها الدعم المادي والمعنوي؟