'الحب هو قبل كل شيء الالتزام'

خمس قصص وخمس نساء في الحب والصداقة والخيانة

وكالات

تحكي رواية"الحب في خمسة فصول" خمس قصص متشابكة لخمس نساء مختلفات تتقاطع طرق الحياة بينهن، منهن الزوجة، والأم، والصديقة، والحبيبة، والابنة، تستكشف من خلالهن الروائية الألمانية دانييلا كرين حياة المرأة العصرية في حالات اجتماعية متباينة بكل طموحاتها، وآمالها، وخيباتها، وتقدم رؤية جديدة ومتعاطفة حول هموم النساء المشتركة، منها الأمومة وعدم الإنجاب، والحب، والصداقة، والخيانة الزوجية، والطلاق. تلك الأعباء التي تحملها نساء العالم جميعًا، والتحديات التي عليهن مواجهتها في كل مكان وزمان.

الرواية التي ترجمتها رضوى إمام وصدرت أخيرا عن دار العربي، تتكون من خمسة أقسام تتبع خمس نساء مرتبطات بشكل فضفاض أثناء محاولتهن التنقل بين طرق ودروب الحياة والحب والجنس والأمومة في أعقاب ماضي مؤلم وعلاقات غير مكتملة. حيث نرى العالم من خلال عيونهن، ونختبر كل زاوية ممكنة من علاقاتهن، ونشهد الطرق المختلفة التي تجد بها النساء الحب والتعامل مع الصدمات.. في بعض الحالات تكون الروابط بين الخيوط الأنثوية مباشرة، وفي حالات أخرى تبرز بشكل تدريجي وبطرق غير متوقعة.

إن جزء من متعة الرواية كونها تثير شبكة الاتصالات بين عوالم النساء الخمسة. وتقدم وجهات نظر حميمة وقاسية حول قضايا بما في ذلك الحمل غير المرغوب فيه، والفجيعة، والطلاق، والخيانة الزوجية.

باولا ويوديت وبريدا ومليكه ويوريندي بطلات الرواية مختلفات في الرؤى والأفكار إلا أن لكل واحدة منهن بعض السمات التي يمكن الارتباط بها ومن ثم تجمعها مع الآخرى. باولا، بائعة الكتب التي هي في أمس الحاجة إلى تكوين أسرة، تزوجت من لودجر غريب الأطوار. وعلى الرغم من نهجه الاستبدادي إلى حد ما كزوج، تحاول باولا إقناع نفسها بأنها سعيدة، لكن عالمها كله ينقلب رأسًا على عقب عندما تموت ابنتها جوهانا ويختفى لودجر ملقيا باللوم عليها في وفاة الابنة.

يوديت، أفضل صديقة لباولا، هي بطلة القسم الثاني من الرواية. طبيبة لم ترغب في الزواج أو إنجاب الأطفال، تعيش رغباتها الجنسية دون شرط الزواج والإنجاب، وجدت نفسها حاملا بشكل غير متوقع. تنتقل القصة بعد ذلك إلى بريدا، إحدى مرضى يوديت. بريدا كاتبة تحاول على التركيز على التوفيق بين الأمومة وحلمها الوظيفي في الكتابة لها علاقة متقلبة مع زوجها جوتز. كلاهما يكافح لإيجاد توازن بين حياتهما العملية وحياتهما الأسرية، وللأسف لا يمكنهما جعل زواجهما ناجحًا، على الرغم من الكيمياء الجسدية بينهما.

ويروي الجزء الرابع قصة مليكه، صديقة جوتز السابقة، مع والديها اللذين يفرقان في التعامل بينها وبين أختها جوريند، فهما يعبدان أختها ويتجاهلانها في كثير من الأحيان. تعتني مليكه بوالديها بينما تتابع جوريند ـ موضوع الجزء الأخير من الرواية ـ مسيرتها التمثيلية وتعيش بسعادة مع طفليهما وزوجها الذي يبدو مثاليًا.

تسعى الروائية إلى كشف التحولات في الحياة اليومية، تلك التحولات التي تتآمر لتفرقنا عن بعضنا البعض، إنها تغربل أنقاض العلاقات الفاشلة وتحاول فهم الأحداث خاصة تلك الصغيرة الخفية التي أدت إلى انهيارها. تصحبنا للعيش في الزوايا الحميمة لعالم المرأة المظلل، حيث يتأرجح الوقت بين الحاضر وحلقات متنوعة من ماضيها. يتم تقديم هذه الأحداث والمواقف والأحاسيس في مقاطع مختصرة أشبه بالأصداء، مثل مشاهد في مسرحية لا تظهر أهميتها الجماعية إلا في الماضي. لنرى كيف تتواصل الشخصيات مع بعضها البعض وكيف تؤثر أفعالهن - وأفعال الرجال في حياتهن - عليهن وعلى الأبطال الآخرين.

في واحد من حواراتها حول الرواية قالت كرين "أعلم أن فقدان العائلة مؤلم جدا لجميع النساء، فكل ما يأتي بعده لا يمكن أن يحل محل خسارته. ولكن ليس من الجيد أيضا لأي شخص أن يتحمل الاستمرار في شراكة لا تطاق. لذا فبطلاتي اللاتي يقررن الانفصال لديهن أسباب وجيهة للقيام بذلك".

وتتابع "الحب هو قبل كل شيء الالتزام. ادعى كانط أننا لم نكن في العالم لنصبح سعداء، ولكن لأداء واجبنا. ولكن في الحب خاصة يمكن أن يصبح الواجب فرحا. القرار ليس ضروريا دائما. أنا لا أختار أن أحب طفلي. أنا فقط أحب ذلك. الأمر مختلف في الشراكة. في مرحلة معينة، يجب أن أتخذ قرارا لصالح أو ضد الشخص الآخر. وبمجرد أن أقرر لابد أن أكون ملتزما.

وأضافت كرين حول كون أحد بطلات الرواية تعيش لرغباتها الجنسية رافضة الارتباط "بالنسبة لي، الجنس هو مجرد شيء طبيعي جدا. تماما مثل الأكل والشرب والنوم. إنه حاجة أساسية"

وأشارت "عندما أنظر حولي في بيئتي، غالبا ما أشعر أن النساء هن الأقوى مقارنة بالرجال. إنهم يتحملن عددا لا يصدق من المسئوليات في نفس الوقت، ويتعاملن مع الأزمات بثقة أكبر ولا يحتجن باستمرار إلى الثناء. إنهن ببساطة يفعلن ما يجب القيام به. ويظللن على المسار الصحيح، حتى في مواقف الحياة القاسية".

مقتطف من الرواية

استمر هطول الأمطار، بينما عصرت "باولا" البرتقال، وأعدت الحليب لقهوتها، ثم تأملت زهور التوليب فوق مائدة المطبخ.

قبل عام، كانت تخشى الأيام الطويلة، فتشرع على الفور في تنظيف البيت، أو غسيل الملابس، أو الخروج للتمشية، أو الذهاب إلى السينما، أو ربما تتصل بـ"يوديت"، وتزور معها حصانها. لم تكترث بنوع النشاط، ما دامت تجد ما يشغل وقتها.. وإلا، تحاصرها شياطين الخوف، ويسوقونها إليهم.

كثيرًا ما كانت تسأل نفسها بعد انفصالها عن "لودجر": "متى بدأت النهاية؟ متى خرجت الأمور عن السيطرة؟"، لا شك أن موت "يوهانا" كان بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير.

ولكن مع مرور الوقت، اكتشفت أن فشل العلاقة يعود إلى أحداث أخرى.. سابقة.. تعود إلى الوراء.. لفترات طويلة.. هكذا ظلت تعود بذاكرتها إلى الماضي، حتى وصلت إلى لحظة لا رجعة فيها.

بدأ كل شيء عندما التقته صدفة في حفل افتتاح أحد متاجر الأطعمة العضوية في الضواحي الجنوبية. كانت بصحبة "يوديت"، فقد قضت معها اليوم على شاطئ البحيرة، حيث استلقتا معًا، ودلَّكت كل منهما جسد الأخرى بكريم الوقاية من الشمس. ثم تناولتا معًا الأيس كريم، وجذبتا أنظار الحاضرين. وبعدما غمرتهما مشاعر الثقة، والرضا بالنفس، قصدتا طريق العودة إلى المدينة على متن الدراجات.

لم تهدأ حرارة الجو. وعندما رأتا من بعيد البالونات الهوائية، وأوعية الأزهار، واحتشاد الناس أمام المتجر، قررتا أن تتناولا مشروبًا باردًا.

كان "لودجر" واقفًا بالقرب من المدخل، حيث لفت انتباه "باولا" على الفور. حتى هو اعترف لها بعد ذلك، أنه لاحظها من زاوية عينيه، وظل يلاحقها بنظراته. كانت "باولا" ترتدي فستانًا أخضر من دون حمالات، بينما انسابت خصلات شعرها الأحمر المجعد أسفل القبعة الشمسية.

اشتدت حرارة الشمس بالخارج، واختلطت رائحة العوادم مع رحيق أزهار الزيزفون، فحملت نسمات الرياح ذلك المزيج النفاذ والجذاب في الوقت نفسه إلى داخل المتجر. كان "لودجر" ذو الشعر الأشقر والعينين الزرقاوين، يرتدي قميصًا من الكتان، ولكنه لم يبدُ كزير نساء.

وجدت نفسها تغادر معه الحفل بعد مدة وجيزة، حيث أخذا يتسامران على متن دراجتيهما جنبًا إلى جنب. حرص "لودجر"، بين الحين والآخر، على النظر إليها، ولكن عينيه لم تلتقيا بعينَيها. وكلما وجد نفسه منساقًا في الحديث، أوقف الدراجة.

انساقا إلى الطرق المظللة، حتى وصلا إلى ضفة النهر. وهناك، جلسا على أحد المقاعد، ومر بيده على ذراعها، وتبادلا أول قبلة تحت ضوء المساء.

في الأسابيع الأولى، كانا يلتقيان كل يوم.

في البداية، كانا يلتقيان أسفل شجرة بلوط في "حديقة كارلا". دائمًا ما كانت تصل هي أولًا، وتتأمله وهو ينعطف على متن دراجته، ثم تلوح له بيدها من بعيد.

تنتابهما مشاعر الخجل والتوتر مع بداية كل لقاء، ولكنها سرعان ما تتلاشى بعد أول قبلة. وبعدها، يتمشيان عبر الحديقة، في الأحياء المجاورة. راقها كيف يميل برأسه ويتوهج، كلما نظر إليها، كما راقها أيضًا صوته العميق، وسرده الهادئ للحكايات. وجذبتها معلوماته عن البناء البيئي، والاكتفاء الذاتي، والحيوانات، والنباتات. وسرعان ما نقل إليها عدوى الرغبة في تغيير مسكنها.

كثيرًا ما كان "لودجر" يتردد عليها في متجر الكتب، حيث تقع عيناها على رأسه أولًا، وهو يصعد بالسلم المتحرك، حتى يصل إلى قسم الأدب. وفي بعض الأحيان، كان يفاجئها في أثناء انشغالها بفرز الكتب أو تسليمها للقراء، فتجده يربت على يدها أو ذراعها. وعندما تستدير له، تجتاحها مشاعر خفية من السعادة بوسامته التي صارت لا تخفى على زميلاتها.

كانا يقضيان الليالي في بيته، فلم ينم في بيتها سوى مرة واحدة، لأنها كانت تسكن مع "يوديت" آنذاك. في تلك الليلة، قضى الثلاثة الليلة معًا وتناولوا البيتزا مع النبيذ الأحمر. كان "لودجر" يخرج عن سياق المواضيع التي يتحدثون فيها، ليلقي محاضرات حول البصمة البيئية التي يخلفها الناس وراءهم. كما ظل يقاطع "يوديت"، ليضفي عمقًا على حديثها، أو ليصحح لها مفاهيمها. لم يخفَ على "باولا" استياء صديقتها، التي ظلت طوال الأمسية تهز قدميها وتحرك فمها بتوتر.

في اليوم التالي، دخلت "يوديت" إلى حجرة "باولا"، حاملة في يدها كومة من الكتب الطبية، وقالت:

- إنني في حاجة إلى الهدوء مع اقتراب موعد امتحاناتي النهائية.

وطلبت منها ألا يتردد "لودجر" عليهما في تلك الفترة.

في الليل، يستلقيان بجوار بعضهما بعضًا، بينما تتلامس اليدان والساقان. تمر بيدها على ظهره، بينما تعد دقات أجراس الكنيسة المجاورة. فإن تبين لها أن الليل لا يزال في أوله، تضع يدها بين ساقيه.

لم تنشغل بطريقة مضاجعته لها، فمع كل حركة كان يحرص على سؤالها: "أيروقك هذا؟"، "أترغبين في هذا؟". ولم تتعجب عندما جفل بعدما لامس لسانها مواضع جسده الخاصة، فقد استسلم لها في النهاية، واستلقى في مكانه بهدوء، بينما شبك ذراعيه فوق رأسه. وبعدها، ذاب الجليد، وأخذ يحكي لها عن موت والديه إثر اصطدام سيارتهما بشاحنة نقل. كانا في طريقهما إليه، بعد حصوله على دبلوم الهندسة المعمارية ببضعة أيام. فما كان منها سوى أن قبلت كتفيه ورقبته، بينما استقر رأسه على صدرها.

بعد بضعة أشهر، طلب منها "لودجر" أن تزوره في المكتب. بدا على صوته الحماس، ولكنه لم يبح لها بالسبب. وعندما وصلت إلى مكتب "برينكمان وكرون" استدار الأخوان "برينكمان" على مقعديهما في الوقت نفسه، وابتسما لها.

أخفض "لودجر" رأسه، ثم أمسك بيدها، وأخذها إلى غرفة الاجتماعات، حيث وجدت على الطاولة تصميمًا معماريًّا لشقة تبلغ مساحتها ثلاثمائة متر مربع، وملحق بها طابق علوي، يبلغ ارتفاع سقفه أربعة أمتار. وقبل أن تلتقط أنفاسها، أخذ يقنعها بإمكانية السكن في بيت بلا حجرات منفصلة، أو جدران فاصلة، وشرح لها المواضع التي سيَنصُب فيها بعض المنصات كي يشكل المكان، ثم أشار إلى موضع السلالم التي تؤدي إلى ساحة مفتوحة. وفي أوج شعوره بالحماس، قال لها أخيرًا:

- هنا سنعيش معًا!

ولكن "باولا" لم تنبس ببنت شفة، فقد كانت تحتاج إلى بضع لحظات كي تستوعب ما يحدث.

تذكرت أنه كثيرًا ما يتذمر من الكنيسة المجاورة له، فهي تذكره بالمباني التي يشيدها المسيحيون رهبة من الرب.

سألها:

- ما رأيك؟ هل أنت سعيدة؟

في اليوم التالي، ذهبا لزيارة المكان على متن دراجتيهما. كانا يرتديان قبعات شتوية، وأوشحة وقفازات. التقيا كالعادة عند شجرة البلوط في الحديقة، ووصلا معًا إلى حي سكني، نادرًا ما تقصده "باولا".

قال "لودجر":

- أتوقع أن تنتعش تلك المنطقة في أقرب وقت.

كان البيت في شارع مرصوف بالحصى، تصطف على جانبيه الأشجار، ويطل على ترعة صغيرة. لم يوجد في المنطقة بأسرها سوى عدد ضئيل من الكنائس. بدت مساحة البيت مثل ساحة محطة القطار، ولكن جدرانه كانت متسخة، واشتدت فيه البرودة. وما إن وطأت بقدميها داخل المكان، حتى اجتاحتها على الفور مشاعر الرغبة في الرحيل. ولكن "لودجر" بسط أوراق تصميم البيت على الأرض. وأخذ يتمشى في القاعة، ويتفقد البناء والطوب، ثم بدأ يصف لها التفاصيل كافة:

- هنا، وحدة المطبخ.. فوق تلك المنصة الخشبية الخاصة بها.

صعدت "باولا" السلم إلى منطقة النوم، واتكأت على الدرابزين، لتلقي نظرة عامة على المكان.