فن

الموسيقى تنتصر للحياة

وكالة أنباء حضرموت

الموسيقى.. كفٌّ حانية تربّت على كتف الحزن لنبتسم.. وتبرع الموسيقى عموماً، واليمنية خصوصاً، في الولوج إلى الروح لينقلب بها على الجسد انقلاباً ناعماً يجرنا من عتمة الليل إلى الصباح.

وكما يغني البلبل الصداح المرحوم علي السمة: «أسامر الليل حتى تطلع الأضواء»، لتتساءل: ما طعم، ما لون، ما رائحة الغد؟

 


ليست الموسيقى في اليمن مجرّد جسد يتمايل، بل هي شعور قائم على الميل والتمايل والغنج والدلال حتى في البعد والفراق.. تركت العصفورة تغريدها في حنجرة السمة وعاشت بكْماء.

سمات التفرّد

لكل فنان خصوصيته، ولكل حقبة زمنية أوتارها وحناجر ترهف لها الروح قبل الآذان.

برع أحمد السنيدار في صنع حضوره الخاص كيفما تحرّكت الأذن والعين، تجد له سمات يتفرّد بها عن غيره.. وربما هو الفنان الذي يجسّد الشجن بروحه وجسده، فمن التي ألهبت مشاعره ليقدم لنا تلك الأغاني الخالدة. نعرفه من خلال بعض التسجيلات القديمة، التي كنا ننتظرها في استراحة العصر، نميّز الوتر الخاص الذي يعزف به، وننتظر صوته الذي يتلون بين القوة واللطف ونصغي مخدرين بالطرب.

 


يطلق شعره، نظراته، أصابعه، يميل رأسه بحرية لننساب معه كموجة تعبر بنا خلال مشاعر متناقضة، مكملة بعضها.. نحت على عوده الخاص عصفورين صغيرين، من أول لمحة ستعرف أنه الربان الذي سيقودنا على سفينته.. نطرب، نحلم، نعشق وإن لم نكن عشاقاً في الحقيقة.. يتوغّل فينا شعور نقي، نغرق في ابتهالاته مدة من الزمن.. يتنقل بنا بين الحب والعتاب وحتى الفراق، بغنائه يبقى الحب وحيداً، خالداً.. أبدياً حتى في ابتعاده.. ينتهي من الغناء ونأمل في رؤية الغروب وإن كان اليوم في أوله، لينتهي اليوم محصوراً بمزاجه الخاص وطربه الجميل.

التفاصيل البسيطة

تفتح الإذاعة وتطرب لغناء أبو بكر وسط الضجيج وأكوام الغبار وتزاحم أبواق السيارات والبشر، كأنك في مقيل زجاجي بعيد عنهم وعمّا يجول في خاطرك.

في الحرب أو السلام، تجد عربة نانا تتجوّل ناشرة الفرح، ستدرك أن أذناً تهرب منك، متتبعة صوت أيوب طارش، الذي يعيش مع تفاصيلنا البسيطة، يحتفل بالثورة، الجمهورية، الحب، الوطن وقلب ظمآن أطفأ لظاه بقطعة آيس كريم.

 


الموسيقى لغة الروح وسفرها إلى خارج الحدود، ثقافة تُحيي إيقاع الجسد بشكل خفي، هكذا فعل المرحوم محمد جمعة خان حين نقل التراث العدني والحضرمي إلى الكويت، حين كانت ترسو السفن في الموانئ اليمنية ليبحر بركابها مع فرقته أغنية تلو الأخرى، ومنها انتقل إلى إحياء الحفلات والأمسيات هناك.

«ممشوق القوام» حتى الآن، سمعتها عشر مرات بأداء جديد لعبدالرحمن السماوي، وكل مرة أصغي إلى حسون يغرّد من وتر وحنجرة وأتساءل: من ألهم العصافير أن تعير بعض تغريدها وتبقي عصافير صغيرة لا تجيد الزقزقة؟

الغناء الصنعاني

ولأن روحي أواضب على تعتيق روحي، أملك أذناً حساسة تجاه من يعيد غناء التراث اليمني، وخصوصاً الصنعاني، فلا أحب سماع الأغاني إلا من مالكها الأصلي ليقيني بأنهم لم يكونوا مجرّد مؤدين، بل مغردين، يحيكون ويصفون حالة شعورية إنسانية مغمورة بالحب والهيام.

أما حسين محب فذهب بي إلى محمد محمود الحارثي بأداء يعبر بنا إلى زمن لم نعش ميزاته وجمالياته.

بالنسبة لي، هذان الاثنان تفوقا على ذائقتي وأرغماني على سماعها مراراً من دون أن أذهب إلى صاحب الأغنية الأصلي لأقارن بين الأغنيتين الأصلية والأداء.

ليس من السهل ظهور أصوات جميلة في بيئتنا القاسية على الفنون والمشاعر، وإن ظهرت، فاستمراريتها تعد انتصاراً للحياة.

غناء سرعان ما تملّه، غناء تنفر منه، وغناء يلحّ عليك بمشاعر الحب، وغناء يصرح بأنه عاشق.

عاشق لماذا؟

لا ندري، لكننا في الجمال جميعنا عشاق.

صفاء الهبل

شاعرة وكاتبة يمنية

القبس الثقافي
صفاء الهبل