احتفالات شم النسيم حلال أم حرام.. جدل مكرر لا يفسد بهجة المصريين

وكالة أنباء حضرموت

 أثار أحمد محمود كريمة أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر حالة من الجدل بقوله إن عيد الربيع “شم النسيم” ذُكر في القرآن الكريم، وسط نقاشات تتجدد كل عام بشأن هذه الاحتفالات ومدى شرعية الاحتفال بها بالنسبة إلى المسلمين.

ومع اقتراب أعياد الربيع كل عام تضج الساحة الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي بالسؤال الأكثر حضورًا: الاحتفال بشم النسيم حلال أم حرام؟ حيث ينبري العشرات من الدعاة ورجال الدين للإفتاء بمشروعية الاحتفاء بهذا اليوم الذي يراه البعض عيدًا مسيحيًا فيما يعتبره آخرون عادة فرعونية.

ويرى البعض أن هذه المناسبة “بدعة” والإسلام يحرم الاحتفال بالبدع، وأنه يرتبط بانتهاء صوم الأقباط عن اللحوم والأسماك لذلك يحتفلون بتناول الأسماك المملحة واللحوم، أي أنه يرتبط بعادة دينية.

ويقول آخرون إن طقوسا عديدة توارثها المصريون في الاحتفاء بهذا اليوم، بعضها يعود إلى العصر الفرعوني، والآخر له طابع ديني مسيحي. ورغم حالة الجدل السنوية بشأن مشروعية الاحتفال به، فإن ذلك لم يؤثر على تلك الطقوس التي باتت علامة مسجلة في تاريخ المصريين، وجزءًا من الهوية المصرية تتناقله الأجيال.

ويتمسك السلفيون المتشددون بتحريم الاحتفال بهذا اليوم، زاعمين أنه يشبه الأعياد الوثنية عند الفراعنة أو أعياد المسيحيين المخالفة للعقيدة. ففي شم النسيم عام 2011 خرج أحد أبرز الشيوخ المتشددين وهو الداعية أبوإسحاق الحويني ليعلن أن شم النسيم حرام. وبيع البيض والرنجة والفسيخ في يوم شم النسيم حرام. ومن يفعل ذلك فهو آثم ورزقه حرام. وأشار إلى أن “جميع العلماء حرّموا مشاركة المشركين في أعيادهم، وأثّموا فاعله، وحق على الله أن يضرب على الغافلين الذل والعار”. وأضاف في هذا العام أنه “يحرم على كل بائع أن يبيع في هذا اليوم أيّ مطعوم يقوم به هذا العيد، فلا يجوز بيع البيض أو الفسيخ أو الرنجة ومن فعل ذلك فهو آثم وكسبه حرام”.

أصل شم النسيم هو احتفال بدخول الربيع وهو شأن إنساني اجتماعي لا علاقة له بالأديان، وكان معروفا عند الأمم القديمة

لكن دار الإفتاء حسمت الجدل وقالت إنه “عادة مصرية أصيلة ومُناسبة اجتماعية لا تُخالف الشريعة الإسلامية، ولا ترتبط بأي مُعتقد ينافي الثوابت الإسلامية”.

وتشير الفتوى إلى أن “المصريين يحتفلون بشم النسيم بالترويح عن النفس، وصلة الأرحام، وزيارة المنتزهات، ومُمارسة بعض العادات المصرية مثل تلوين البيض، وأكل السمك، وكلها أمور مباحة شرعا”.

وقالت إن أصل شم النسيم هو احتفال بدخول الربيع، وهو شأن إنساني اجتماعي لا علاقة له بالأديان، فقد كان معروفًا عند الأمُم القديمة بأسماء مختلفة.

وقال كريمة، خلال مقطع صوتي نشره عبر صفحته الرسمية على فيسبوك، إن شم النسيم يعد أحد الأعياد المصرية، التي كان يحتفي بها المصريون القدماء؛ وذلك لكونه بداية حصاد القمح والثوم والبصل والشعير، وبداية تفتّح أزهار الفاكهة الصيفية.

وأشار إلى أنه توجد للبشرية مناسبات وأعياد دينية واجتماعية وقومية مختلفة، مستشهدًا بالحديث النبوي “لكل قوم عيد”. وأضاف أن شم النسيم المعروف باسم عيد الربيع لدى المصريين القدماء وهو يوم الزينة الذي ورد في القرآن الكريم في الآية 59 من سورة طه “قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى”، لافتًا إلى أن الدلالة من الآية القرآنية أن المصريين القدماء كانوا يتزينون فيه لأنه يوم عيد قومي لهم.

ورغم اختلاف الآراء واقتناع البعض بالفتاوى الشرعية وتشكيك البعض الآخر بها وإصرارهم على موقف متشدد استنادا إلى رفض بعض العلماء مثل ابن تيمية ما هو مختلف، إلا أن للمصريين طقوسًا مميزة في هذا اليوم، تبدأ باليوم الذي يسبقه، الذي يأتي غالبًا يوم السبت، ويطلق عليه “سبت النور” وفيه يتم إشعال النيران (رمزيًا) في الليل من بعض الأشخاص خاصة في القرى والأرياف.

كما يسمى أيضًا بـ”عيد الكحل” حيث يكتحل الجميع في هذا اليوم، فترى أعين الغالبية لاسيما الأطفال وصغار السن تميل إلى اللون الأزرق الداكن أو الأسود بحسب نوعية الكحل المستخدم، والنساء في القرى لا يعرفن أقلامًا للكحل، فكثيرات منهن يرسمن الحواجب بالسبابة، يجلبنه من الأسواق صلدًا، حجرًا تختلط زرقته بلمعة فضية، ويسحقنه في أيادي الهون النحاسية الصفراء، وما إن يشرق أحد الأقباط حتى تصير كل شوارعنا نظيفة، ورش المياه أمام الأبواب طقس مقدس كذلك.

ومن الطقوس المميزة كذلك تعليق أوراق شجر “الصفصاف” على أبواب المنازل، كما يرسم الصبية حلقات من فروع هذا النوع من الأشجار، ويصنعون منه أطواقًا (أكاليل) تزين الرأس بألوان زاهية، بالإضافة إلى قيامهم بتزيين الشوارع بأعواد من النباتات العطرية الأخرى كالنعناع والريحان.

ويخرج العديد من المصريين على اختلاف دياناتهم في ذلك اليوم إلى الحدائق للاستمتاع بالطقس الربيعي، ومن أهم ما يميز هذا الاحتفال، الاستمتاع بالأجواء الربيعية وتناول وجبة تقليدية تكون غالبا من الأسماك المملحة.

وحدد المعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية في مصر ‎موعد عطلة شم النسيم، هذا العام بيوم الاثنين السادس من مايو، وهي عطلة رسمية مدفوعة الأجر للعاملين في القطاعين الخاص والحكومي.

وتقول الهيئة العامة للاستعلامات التابعة للحكومة المصرية إن شم النسيم عرفه قدماء المصريين منذ ما يقرب من خمسة آلاف سنة.

ويعتبر أقدم عيد غير ديني في العالم، ويرجح بعض المؤرخين أن شم النسيم يعود إلى أقدم من ذلك حيث كان يتم الاحتفال به في هليوبوليس الفرعونية.

وجاء وصف يوم شم النسيم عند القدماء المصريين في مقتطف يطلق عليه “أناشيد الضارب على الجنك”، نقلا عن الترجمة الفرنسية التي قدمتها العالمة كلير لالويت، أستاذة الأدب المصري القديم بجامعة باريس، “اقض يومًا سعيدًا، وضع البخور والزيت الفاخر معا من أجل أنفك، وضع أكاليل اللوتس والزهور على صدرك، بينما زوجتك الرقيقة في قلبك جالسة إلى جوارك. فلتكن الأغاني والرقص أمامك، واطرح الهموم خلفك. لا تتذكر سوى الفرح، إلى أن يحلّ يوم الرسو في الأرض التي تحب الصمت”.

ويحتفل المصريون بالمناسبة يوم الاثنين التالي مباشرة ليوم الأحد الموافق لعيد القيامة طبقا لتقويم الكنيسة القبطية الأرثوذوكسية، وذلك في شهر “برمودة” من كل عام.

وترجع تسمية “شم النسيم” بهذا الاسم إلى الكلمة الفرعونية “شمو”، وهي كلمة هيروغليفية قديمة تعنى عيد الخلق أو بعث الحياة، وكان المصريون القدماء يعتقدون أن ذلك اليوم يرمز إلى بدء خلق العالم وبعث الحياة، وفق الهيئة الحكومية المصرية.

وقد تعرّض الاسم للتحريف على مرِ العصور، وأضيفت إليه كلمة “النسيم” لارتباط هذا الفصل باعتدال الجو، والنسيم العليل، وما يصاحب الاحتفال بذلك العيد من الخروج إلى الحدائق والاستمتاع بجمال الطبيعة.

وترجع جذور كل ما يرتبط بالاحتفال بشم النسيم من عادات وتقاليد اجتماعية أو طقوس وعقائد إلى أعماق تاريخ مصر، وكان قدماء المصريين يحتفلون بذلك اليوم احتفالا رسميا كبيرا، فكانوا يجتمعون أمام الواجهة الشمالية للهرم قبل الغروب ليشهدوا غروب الشمس، فيظهر قرص الشمس وهو يميل نحو الغروب مقتربًا تدريجيًّا من قمة الهرم، حتى يبدو للناظرين وكأنه يجلس فوق قمة الهرم، وتخترق أشعة الشمس قمة الهرم، فتبدو واجهة الهرم أمام أعين المشاهدين وقد انشطرت إلى قسمين.

ويرتبط الاحتفال بشم النسيم بمجموعة أطعمة تقليدية خاصة تتعلق بالعادات والتقاليد، والتي انتقلت من المصريين القدماء عبر العصور لتفرض نفسها على أعياد الربيع في أنحاء العالم القديم والحديث حيث تشمل قائمة الأطعمة المميزة لمائدة شم النسيم: البيض، والفسيخ (السمك المملح)، والخَسُّ، والبصل، والملانة (الحُمُّص الأخضر)، وهي أطعمة مصرية كان لها معنى ومدلول عند المصريون القدماء.

فالبيض بدأ ظهوره على مائدة أعياد الربيع مع بداية احتفال المصريين بعيد شم النسيم وهو عند المصريين القدماء يرمز إلى خلق الحياة من الجماد، وكان قدماء المصريين ينقشون عليه الدعوات والأمنيات بألوان مستخلصة من الطبيعة ويجمعونه في سلال من سعف النخيل الأخضر ويتركونه في شرفات المنازل أو يتم تعليق السلال على فروع الأشجار بالحدائق، لتحظى ببركات نور الإله عند شروقه فيحقق دعواتهم، وقد تطورت هذه النقوش فيما بعد لتصبح لونًا من الزخرفة الجميلة والتلوين البديع للبيض. وقد صوَّرت بعض برديات منف الإله “بتاح” إله الخلق عند الفراعنة وهو يجلس على الأرض على شكل البيضة التي شكلها من الجماد، وقد أخذ العالم عن مصر القديمة أكل البيض في شم النسيم فصار البيض الملون هو رمز عيد الفصح الذي يتزامن مع شم النسيم.

وظهر البصل ضمن أطعمة العيد التقليدية أيام الأسرة السادسة وارتبط عندهم بإرادة الحياة وقهر الموت والتغلب على المرض، وارتبط ظهوره برواية وردت في إحدى برديات أساطير منف القديمة التي تروي أن أحد ملوك الفراعنة كان له طفل وحيد أصيب بمرض غامض أقعده عن الحركة لعدة سنوات وعجز الأطباء والكهنة في معبد منف عن علاجه، ولجأ الفرعون إلى الكاهن الأكبر لمعبد “أون” معبد إله الشمس والذي أرجع سبب مرض الابن إلى سيطرة الأرواح الشريرة عليه وأمر بوضع ثمرة ناضجة من البصل تحت رأس الأمير بعد أن قرأ عليها بعض التعاويذ، كما علّق على السرير وأبواب الغرف بالقصر أعواد البصل الأخضر لطرد الأرواح الشريرة وعند شروق الشمس قام بشق ثمرة البصل ووضع عصيرها في أنف الأمير الذي شفى تدريجيا من مرضه ومنذ ذلك الوقت اعتبره الفراعنة من النباتات المقدسة.

ويعتبر الخس من النباتات المفضلة التي تعلن عن حلول الربيع باكتمال نموّها وعرف ابتداء من الأسرة الرابعة حيث ظهرت صوره في سلال القرابين بورقه الأخضر الطويل، وكان يُسَمَّى بالهيروغليفية “عب”، واعتبره المصريون القدماء من النباتات المقدسة.

أما الفسيخ وهو من “الأسماك المملحة” فظهر بين الأطعمة التقليدية في الاحتفال بالعيد في عهد الأسرة الخامسة، مع بدء الاهتمام بتقديس النيل، وقد أظهر المصريون القدماء براعة شديدة في حفظ الأسماك وتجفيفها وصناعة الفسيخ، و اعتبروه رمزا للخير والرزق وتناوله في تلك المناسبة يعبّر عن الخصوبة والبهجة المصاحبة لموسم الحصاد.

كما يعرف نبات الحمص الأخضر عند المصريين باسم “الملانة”، وقد جعلوا من نضوج ثمرة الحمص وامتلائها إشارة إلى مقدم الربيع.

ويستمر الاحتفال بهذا العيد تقليدًا متوارثًا تتناقله الأجيال عبر الأزمان والعصور، يحمل ذات المراسم والطقوس، وذات العادات والتقاليد التي لم يطرأ عليها أدنى تغيير منذ عصر الفراعنة وحتى الآن، فهي نفس العادات التي ما زال يمارسها المصريون حتى اليوم.

ويبقى شم النسيم رغم الجدل بشأن مشروعية الاحتفال به عيدًا للمصريين يتنفّسون خلاله الصعداء، فالكثيرون ربما لا يعرفون كونه عيدًا مسيحيًا أم فرعونيًا، لكن البيوت المصرية تحتفل به دون فرق بينه وبين عيدي الأضحى أو الفطر.